ألــبرت آيـــنـــشـــتــيـــــن مع هــيــ ــــكــــ ــل
آينشتاين ذلك الكائن الفضائي العجيب .. الذي يبدو وكأنما زادات الطاقة بدماغه فتفجرت عن ذلك الكائن المنكوش في شعره وهيئته ...
آينشتاين ذلك العبقري الجميل .. له حوار مهم مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل
و الحوار ليس فقط مع آينشتاين العالم ..
فهو في المقام الأول مع آينشتاين الإنسان و السياسي ..
انه آينشتاين حينما يتحدث عن اليهود والصهيونية ودولة إسرائيل ...
عن الإنسان و الحرب ولعبة القنبلة النووية... ,,
و عن أشياء أخرى كثيرة ..
انه آينشتاين مع هيكل ..
- - -
ألبرت أينشتاين
القنبلة الذرية والعرب وإسرائيل*
بين كل الذين أتيحت لى فرصة مقابلتهم، يظل "ألبرت آينشتين" - عالم الطبيعيات الأكبر وصاحب نظرية النسبية، التى فتحت آفاق الكون أمام عقل وعين الإنسان - رجلاً أتمنى لو كان فى استطاعتى أن أسترجع الأيام - والأقدار - وأقابله مرة أخرى.
إن مثل ذلك الشعور يراودنى فى حالة كثيرين ممن عرفت - لكنه فى حالة "ألبرت آينشتين " بالذات أكثر ظهوراً، وأقرب إلى البال.
لماذا "ألبرت آينشتين" بالذات؟
هناك بالطبع سبب واضح وهو أن "آينشتين" كان - ولا يزال - أكبر "نجم" فى سماء العلم فى القرن العشرين الذى أثبت فعلاً أنه "قرن العلم" - قبل وبعد أى نسب آخر.
لكن هذا السبب الواضح فى ظنى ليس وحده، أو ليس وحيداً، ولابد أن تكون بعده أسباب أخرى تفسر ذلك الشعور لدىّ إزاء "ألبرت آينشتين".
ما هى بالضبط - أو على وجه التقريب - هذه الأسباب؟
- ربما كان بينها - هكذا أحلل شعورى الآن - أننى لم "أستوعب" الرجل بالقدر الكافى قبل لقائى معه فى 12 ديسمبر 1952، وإنما حدث ذلك بعد مقابلتى له فعلاً.
وعندما "استوعبته" فقد اكتشفت أننى لم أسأله فيما كان يمكن أن أسأله فيه كله، ولم أسمع منه ما كان يمكن أن أسمعه كله!
- ربما كان من بينها أن تطورات الحوادث بعد لقائى معه لم تسمح لى بفرصة عرض صورة وافية لحديثنا، فقد وجدت فى أوراقى ثمانى عشرة صفحة سجلتها بخط يدى - عن لقائى به - فى القطار العائد بى من "برنستون" حيث قابلته إلى نيويورك.
ثم استغربت أن ما نشرته من هذا الحديث فى حينه لم يزد عن ثلاثة أرباع صفحة فى مجلة "آخر ساعة" التى كنت أرأس تحريرها فى ذلك الوقت.
وربما لأننا كنا على شبه موعد نلتقى فيه من جديد - أو على الأقل نظل على اتصال بشكل أو آخر - ولم أفعل لأن بعض الظروف شغلتنى بأحداث أخرى، ثم إن بعض الظروف ألزمتنى بقيود معينة حددت مجال الحركة حتى بالاتصال.
وربما، وربما، وكلها الآن من باب التمنى، فقد ذهب الصوت ولم يعد باقياً غير الصدى، وليس فى مقدورى إلا أن أمد السمع إليه الآن من بعيد!
........
لابد أن أعترف أن مقابلة "ألبرت آينشتين" لم تكن فى حسبانى وأنا أعد برنامج رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى نوفمبر سنة 1952.
كانت اهتماماتى فى تلك المرحلة تتركز فى نقطتين رئيسيتين:
أولاهما: متابعة أول انتخابات رئاسية فى الولايات المتحدة تجرى بعد الثورة المصرية فى يوليو سنة 1952.
والثانية: متابعة مقدمات المفاوضات المصرية الأمريكية لعقد صفقة سلاح.
وكان الظن فى القاهرة وقتها أن الجو فى واشنطن ممهد والأبواب مفتوحة لعقد مثل هذه الصفقة أثر زيارة قام بها إلى القاهـرة - قبل شهر واحد - "ويليام فوستر" وكيل وزارة الدفاع الأمريكية.
وربما لحقت بهاتين النقطتين الرئيسيتين ثالثة إضافية، وهى محاولة استكشاف أثر قيام الثورة المصرية فى يوليو 1952 على المحافل الدولية كما هى ممثلة فى نظام الأمم المتحدة، وخصوصاً بالنسبة لمفاوضات الجلاء بين مصر وبريطانيا - وكانت على وشك أن تبدأ رسمياً - والحقيقة أن هذه النقطة الثالثة الإضافية كانت على الحافة لأن مجال الأمم المتحدة قد يصلح لتحسس اتجاهات ولكنه لا يصلح لما هو أكثر من ذلك تحديداً أو تفصيلاً!
ولقد طرأت فكرة اللقاء مع "آينشتين" مصادفة أثناء عشاء فى نيويورك حضره جمع من شيوخ الدبلوماسية المصرية وجمع من شبابها الذين أصبحوا فيما بعد من أعمدتها.
كان معنا على العشاء فى تلك الليلة من الشيوخ الدكتور "محمود عزمى" والسيد "أحمد فراج طايع" والسفير "جلال عبد الرازق".
وكان الشباب، أعمدة أيام قادمة، يضمون "إسماعيل فهمى" و"أشرف غربال" و"نجيب قدرى" و"محمد رياض" و"عبد الحميد عبد الغنى".
وتشعب حديثنا طوال السهرة فطاف بموضوعات شتى: الانتخابات الأمريكية - المفاوضات المصرية البريطانية - إسرائيل - السلاح النووى الجديد - قضية تسرب أسرار القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفيتى، وكانت وقتها موضوع الصفحة الأولى فى كل جرائد أمريكا.
واقترح أحدهم أن نجتمع مرة ثانية - بقضنا وقضيضنا - على غذاء فى عطلة نهاية الأسبوع فى مطعم ريفى خارج نيويورك، وأبديت اعتذارى لأننى سوف أكون خارج نيويورك فى عطلة نهاية الأسبوع. ثم قلت إننى فى نهاية عطلة الأسبوع سوف أكون فى جامعة "برنستون".
وإذا بالدكتور "محمود عزمى" يسألنى متهللاً:
- "إذن فأنت ذاهب لمقابلة "آينشتين"؟".
وقلت له:
- "الحقيقة أننى على موعد مع الدكتور "جورج جالوب" أقضى معه عطلة نهاية الأسبوع لأننى أريد أن أتعرف على منهجه فى قياس الرأى العام".
وصاح الدكتور "محمود عزمى":
- "وهل هذا معقول... تذهب إلى جامعة "برنستون" ولا تلتقى مع "آينشتين"؟!".
["كان محمود عزمى" أستاذاً لكثيرين منا وكان حرصه بالغاً حتى على توجيه قراءاتنا، وكان من أشد جيل الرواد صفاء فكر ورجاحة عقل، وربما من أكثرهم سوء حظ أيضاً، فقد كان أولى برئاسة الوزارة من كثيرين غيره لكنهم سبقوه. وتخلف "محمود عزمى" لأنه لم يستطع أن يجد مكاناً لنفسه فى معادلة القوة المعقدة بين القصر الملكى والسفارة البريطانية. ولم يحصل "محمود عزمى" على بعض ما يستحق إلا حين اختاره "جمال عبد الناصر" ممثلاً دائماً لمصر فى الأمم المتحدة أواخر سنة 1953. ثم استشهد على منبر مجلس الأمن فى أواخر سنة 1954... أصابته نوبة قلبية وهو يتحدث عن حقوق مصر فى خليج العقبة وعليه].
..................
..................
ونزلت بعد العشاء مع الدكتور "محمود عزمى" نتمشى فى الشارع الخامس نحو سنترال بارك أصحبه إلى فندقـه ثم أواصل المشى بعد ذلك إلى فندقى. وكانت شوارع نيويورك أيامها لا تزال مأمونة.
وخلال سيرنا فى شوارع نيويورك قرب منتصف الليل كان "محمود عزمى" لا يزال فى حكاية "آينشتين" وكيف أذهب إلى جامعة "برنستون" لأقابل "جالوب" وأنسى "أعظم الأحياء فى عصرنا"؟ - وطمأنته إلى أن أول شىء أنوى عمله فى الصباح أن أطلب إلى ممثل وزارة الخارجية الأمريكية الذى يرتب رحلتى مساعدتى فى طلب موعد مع "آينشتين" يتوافق مع فترة وجودى فى "برنستون".
كان الرد جاءنى عند ظهر اليوم التالى أن وزارة الخارجية الأمريكية بذلت كل ما فى وسعها مع جامعة "برنستون" وقد نجحوا فى تحديد موعد لى مع "آينشتين" ولكن بشرطين: أن يكون موعدى معه خلال فترة رياضته بالمشى فى الغابات المحيطة بجامعة "برنستون"، فهذا هو الوقت الوحيد الذى تسمح به ظروفه، وقد قبل - استثناء - أن يتحدث إلى صحفى مصرى أثناء رياضته اليومية التى لا تنقطع، بينما هو فى العادة يفضل أن يجعلها فترة تفكير حر يترك لخواطره فيها العنان.
والشرط الثانى: أن مدة الرحلة - أى مدة اللقاء - لن تزيد عن ما بين ربع الساعة أو نصف الساعة - يتوقف على مزاج "آينشتين".
وللحظة فكرت أن أعتذر لأن الشروط مغالية فى تعنتها، وربما أحسست أنها متعالية فى هذا التعنت.
ثم راجعت نفسى وقبلت.
كان على أن أكون أمام بيته فى الساعة الثالثة بعد الظهر. أدق الجرس وأنتظر. سوف ينفتح الباب ويخرج "آينشتين". أقدم نفسى إليه وأمشى إلى جانبه، والباقى متروك لى وبقدر ما أستطيع.
وذهبت أستكشف البيت قبل أن أتوجه للغذاء مع الدكتور "جالـوب" فى أحد مطاعم الجامعة، فقد كنت أريد أن أكون أمام باب بيت "آينشتين" على النقطة - كما يقولون - بحيث لا تفوتنى من الوقت المخصص لى ثانية واحدة، ثم إننى أصبحت متشوقاً إلى استطلاع أمر هذا الرجل مع شعور غريب بالتمرد عليه لهذين الشرطين على لقائى به: أن ألقاه ماشياً، ثم أن لا يزيد لقائى به عن ربع أو نصف الساعة على الأكثر إذا سمح مزاجه !
ومن المصادفات الغريبة أننى فرغت من الغذاء بسرعة وتهيأت لموعدى وإذا بى وجهاً لوجه أمام صديق أعرفه من مصر، وهو الناقد الأدبى الكبير الدكتور "لويس عوض". وأبدى "لويس عوض" دهشته وهو يرانى أمامه على غير انتظار فى أحد مطاعم جامعة "برنستون"، وكان هو يومها يقيم فيها لمناقشة دراسة عن الأدب الإنجليزى.
وسألنى - وأجبت - وأضاف "لويس عوض" بحماسة:
- "نعم... "آينشتين" هو الخالد الأكبر من أهل هذا الزمن الذى نعيش فيه".
وسرنا معا لدقائق تبادلنا فيها حديثا سريعاً عن تطورات الأمور فى مصر ثم افترقنا. فقد كان على أن "أهرول" وإلا فاتتنى دقائق أو ثوان.
عدت مرة أخرى "زائراً" للبيت الذى جئته قبل ساعة ونصف الساعة "مستكشفاً"... شـارع ممتد... ثم شارع متفرع منه... ثم بيت أقرب ما يكون إلى الكوخ الريفى... جميل فى بساطته. وضغطت على جرس، وفتح الباب. ولم أجد أمامى "آينشتين" وإنما وجدت سيدة عجوزاً لا تنتظر حتى أسألها وإنما تقول لى على الفور:
- "إن "البروفيسور" قادم للقائك... إننى شقيقته".
ثم اختفت وراء سلم يدور فى صالحة البيت ليصعد إلى الدور الثانى ووجدت نفسى وحيداً فى قاعة الاستقبال فى بيت "ألبرت آينشتين".
ورحت أتأمل ما حولى.
قاعة كبيرة وراء المدخل. تفضى إلى باب مغلق على كل ناحية والقاعة الكبيرة تسبح فى الضوء يصلها من الحديقة المحيطة بالبيت عبر جدران من النوافذ. الحوائط الأخرى كلها كتب. مائدة عريضة فى طرف القاعة عليها إناء عتيق من المعدن تملؤه مجموعة زهور برية صغيرة متنوعة الألوان. ساعة قديمة كبيرة تقف فى جانب آخر من الغرفة بجوارها مقعد عليه آلة كمان، وبجوار المقعد حامل عليه دفتر نوتة موسيقية.
واقتربت أكثر من رفوف الكتب ولفت نظرى أن معظمها باللغة الألمانية ورحت أحاول استطلاع عناوين بعضها، ولم أكد أفعل حتى سمعت صوتاً خافتاً من خلفى يسألنى:
- "هل تعرف الألمانية"؟
واستدرت بسرعة. ووجدته أمامى.
"ألبرت آينشتين"... الرجل الذى أعطى الدنيا - بنظرية النسبية - مفتاحاً جديداً لفهم الكون وفتح الباب لعصر جديد هو العصر النووى. إذن فهذا هو "أعظم الأحياء فى عصرنا" طبقاً لتعـبير "محمود عزمى" - و"الخالد الأكبر من أهل هذا الزمان" طبقاً لتعبير "لويس عوض"!
ولم يكن فى شكله - على الفور - ما يوحى بشىء من هذا كله.
أقصر مما تصورت، أنحف أيضاً.
ملامحه كما أعرفها من الصور. شاربه المتهدل أكبر.
ملابسه لا علاقة لها بجسمه كأنها صنعت منذ عشرات السنين لرجل غيره ثم اختلفت مقاييسها مع الزمن عن حجم لابسها الآن.
وكان صوته خفيضاً ونبرته غريبة عندما راح يتحدث بإنجليزية ملكونة (كان يفضل اللغة الألمانية، وظل يختار الكلام والكتابة بها كلما أمكن حتى نهاية حياته).
وسألنى بابتسامة فيها كثير من التردد والحياء:
- "هل أنت على استعداد للمشى"؟
وقلت: "إننى قبلت كل الشروط، وهى تذكرنى بـ "معاهدة فرساى" لكنى قبلتها لأننى لم أكن أستطيع تضييع فرصة للقاء معه وهو "أعظم الأحياء فى عصرنا".!
ورد بنفس التردد والحياء:
- "أنتم تعطوننى أكثر مما أستحق، بعض الناس يبالغ فى تقديره لما فعلته. لا بأس... المهم أن تكون لذلك نتيجة صالحة".
ثم تذكر احتجاجى المبطن - على ما يبدو - وسألنى:
- "لماذا تقول إنها "شروط فرساى"؟ أنا لم أفرض أى شرط سوى أن أقابلك أثناء رياضتى اليومية. الواقع "أنهم" اتصلوا بى على عجل لترتيب هذه المقابلة، ولقد كنت أنا الذى بحثت فى جدولى لأجد الوقت الذى ألقاك فيه لأن لدى سؤالاً أريد أن أطرحه عليك...".
وأظهرت دهشتى وكانت حقيقية.
"كنا ما زلنا بعد فى قاعة الاستقبال بالبيت نتأهب للخروج، ويبدو أنه تذكر شيئاً فعاد إلى المكتب، وأخذ من فوق طبق معدنى عليه غليوناً احتفظ به فى يده وعاد.
ولم أتحرك من مكانى، وعبرت عن دهشتى بقولى "إنه لم يخطر لى أن لديه ما يسألنى فيه.. الطبيعى أن أسأله أنا، خصوصاً وأن وقته بالكاد يتسع لعدد محدد من الأسئلة "!
وقاطعنى بهدوء وقال:
- "سوف أوضح لك المسألة.
عندما حددت لك موعداً بعثت إلى سكرتارية الجامعة بملف عنك، لفتت نظرى فيه قصاصة بتصريح نشرته لك صحيفة فى نيويورك جاء فيه قولك "أن نجيب لم يصنع الثورة فى مصر ولكن الثورة فى مصر هى التى صنعت نجيب " (كان اللواء محمد نجيب وقتها واجهة النظام الثورى الذى قام فى مصر) لقد وجدت كلامك هذا معقولاً.
قرأت فى نفس الحديث أيضاً، وضمن مقدمة الجريدة له، ما يفيد أنك تعرف بعض شباب الضباط الذين يعملون معه، فهل هذا صحيح؟".
وقلت "إننى إلى حد ما.. أعرف بعضهم ".
وقال: "هذا ما أريد أن أسألك فيه، هل تعرف ما الذى ينوون عمله بأهلى؟".
ومرة أخرى كانت دهشتى حقيقية، ولاحظ وأضاف مفسراً: "أهلى من اليهود.. هؤلاء الذين يعيشون فى إسرائيل ".
وتذكرت لحظتها فقط - حقيقة! - أنه يهودى.
كان فى وعيى وفهمى وتقديرى باستمرار أنه "العالم"، ولم أصنفه فى خواطرى على أساس دينى أو عرقى - وها هو الآن يسألنى عن "أهله فى إسرائيل" وأول سؤال!
وتحرك "آينشتين" نحو باب البيت يفتحه، وتبعته صامتاً أحاول أن أرتب تفكيرى لمفاجأة سؤاله واتجه إلى طريق دائرى يقود إلى طريق آخر ممتد وسط صفوف من الأشجار الباسقة مستها أصابع الخريف وحولتها إلى مهرجان ضوء ولون فى تناسق بديع كانت أرض الطريق مغطاة ببساط من أوراق الشجر الملون بكل ظلال الأحمر، والأصفر، والأخضر.
وكانت بعض الأوراق ندية وبعضها جاف، وكانت أقدامنا تدوس عليها ونحن نمشى جنباً لجنب فى وسطه، وخطانا تحدث أصواتاً خافته متناغمة.. صوت كأنه يميل من طراوته، وصوت آخر يرد عليه كأنه ينكسر من جفافه.
وأعتقد أننى لم أخطئ الظن كثيراً عندما تصورت أنه يشعر بحرج هو بالتأكيد رد فعل لما لاحظه من دهشتى لسؤاله الأول.
مسافة قصيرة من سيرنا تغلب على شعوره بالحرج وقال:
- "يظهر أننى أقلقتك بما قلت، وتعجلت اللحظة المناسبة له، ويستحسن الآن أن أعود إليه موضحاً أننى كانت على وشك أن أطلب أن تنسى سؤالى مؤقتاً وتدخل فى أسئلتك على أن أحتفظ أنا بسؤالى إلى النهاية، لكنى أتصور الآن أن سؤالى سوف يظل معلقاً فوق حديثنا ما لم نواجهه ثم نضعه فى مكانه الصحيح.
سوف أقول لك...
اهتمامى باليهود إنسانى وكذلك اهتمامى بإسرائيل إنسانى.
إننى عشت معهم ما تعرضوا له فى ألمانيا قبل الحرب عشت معهم بدايته لكنى تركتهم مبكراً وخرجت قاصداً هذه البلاد (يقصد أمريكا) إننى جئت إلى أمريكا أول مرة فى صحبة "حاييم وايزمان".
كان وقتها رئيساً للوكالة اليهودية وأصبح بعدها أول رئيس لدولة إسرائيل. مجيئى إلى هنا لأول مرة سنة 1921 كان مع "وايزمان".
لقد أراد أن أشارك فى حملة لجمع تبرعات لصالح الجامعة العبرية فى القدس ووافقت. هم أهلى وأنا أعرف الناس بما تعرضوا له، وكنت أشاركهم حلم الوطن. أن يكون لهم وطن لا يضطهدهم فيه أحد - هل أنا واضح؟ دعنى أستكمل جملتى بنفس الوضوح فأنا أقول لك أننى لا أريدهم بدورهم أن يضطهدوا أحداً. فعرب فلسطين لهم حق فى الوطن الوحيد الذى عرفوه، لا يستطيع أحد أن ينكره عليهم ما كان يحزننى فيما جرى فى ناحيتكم من العالم سنة 1948 أنه بدا لى صراعاً بين حقين. ما حدث سبب لى أزمة ضمير أنا أحدثك بما أعتقد. لقد أسعدنى قيام دولة يهودية فى فلسطين، وأحزنتنى المأساة التى تعرض لها العرب فى فلسطين، وكان فى ظنى أن القوى الدولية المعنية تستطيع أن تعالج هذه المحنة. ولكن هذه القوى لم تستطع، ولعلها أرادت - لمصالحها - تعميق المشكلة بدلاً من محاولة حلها.
هل قرأت الخطاب الذى شاركت فى توقيعه إلى محرر الـ "نيويورك تايمز" احتجاجاً على زيارة "مناحم بيجن" لهذه البلاد فى نهاية سنة 1948؟ لقد وصفناه بأنه سفاح وإرهابى ولا يصح أن يسمح له بزيارة أمريكا. إنه جاء وقد قاطعت كل المناسبات التى أقيمت أثناء زيارته، واعتذرت عن استقباله فى بيتى عندما أراد أن يجئ، ومع أنه بعث إلى خطاباً يقول لى فيه أنه يريد أن يسمع منى ويتعلم كتلميذ - فإننى كنت أدرك أنه لا درس يجدى مع هؤلاء الذين يؤمنون بالعنف. لا أحد يستطيع أن يشفيهم.
باختصار.. موقفى إزاء اليهود إنسانى موقفى إزاء إسرائيل إنسانى.. نفس موقفى إزاء العرب وإزاء فلسطين.
إذا أردت أن نناقش هذا الموضوع بتوسع أكثر فأنا على استعداد عندما نفرغ من المشى ونعود إلى البيت وربما كان فى استطاعتى لحظتها أن أطلعك على بعض "الأشياء" وربما كان فيها بعض ما يهمك أن تطلع عليه".
وكنا ما زلنا نمشى على الطريق. وحين سكت عن الكلام لم يعد مسموعاً إلا وقع خطانا فوق الأوراق الطرية والجافة التى تفرشه بألوانها المتنوعة المتداخلة. وعاد إلى الكلام من تلقاء نفسه ودون سؤال منى:
- "الحقيقة إننى لا أريد "لليهود" أن يقعوا فى أسر الوطنية الضيقة أخشى عليهم من ذلك طوال تاريخهم كانت حياتهم وأفكارهم عالمية. تعرضوا للاضطهاد بسبب الجهل والتعصب وربما لظروف اقتصادية وثقافية، وأحياناً حصروا أنفسهم فى أحياء خاصة بهم (الجيتو)، ولكن ذلك كان ضرورة حماية، وليس ضرورة حياة، وأنهم أحسوا بحاجتهم إلى وطن يحميهم وكان هناك الحلم القديم - أو الوعد القديم - بفلسطين، وقد ذهبوا إليه. الذين ذهبوا أقلية بين اليهود. الذين ذهبوا هم الذين قرروا أن الإنسانية ليست قادرة بعد على حمايتهم وأن الوطن قد يقدر. هناك منطق معين فى هذا الكلام لكن وراء المنطق مشكلة الوطن اليهودى محصور والعرب لا يريدونه بينهم. لاحظ أن هناك يهوداً كثيرين لا يريدونه أيضاً لا فى فلسطين ولا فى غيرها. مشكلة منطق الوطن - كما أراها، وفى حالة الحصار والرفض - أنها تستدعى حالة من "الوطنية الضيقة" كما قلت لك "الوطنية الضيقة" عادة تصاب بما يمكن أن نسميه "اختناق المكان"، وهذا يخلق نزعات عدوانية تعيش على العنف وبه، وهذا يفسد روح أى شعب، ويفسد بالتالى سياسته - منهجاً وأسلوباً، لا أريدك أن تنشر هذا الكلام الآن على الأقل قد يثير مشاكل لا لزوم لها ويعقـد ما لا داعى لتعقيده الآن، سوف نتكلم عن ذلك فيما بعد. لقد أردت أن يكون موقفى فى إطاره الحقيقى لكى لا يحدث لبس فى حديثنا من أول لحظة..
يهودى.. نعم أنا يهودى بالطبع وبالمعنى الإنسانى.
صهيونى؟ لا أعرف: أظننى أوافق على أن يكون لليهود بيت ووطن يذهب إليه من يريد منهم من يجد أن سلامه الحقيقى هناك. كنت معجباً بـ "وايزمان"، و"بن جوريون" يحيرنى أحياناً، لكن "مناحم بيجن" يستفزنى إلى أقصى الحدود لأنه يذكرنى بالنازيين.
إسرائيلى.. لا أظن أننى أتعاطف مع الفكرة إنسانياً، وأخشى من عواقب تنفيذها عملياً لأن "الوطنية الضيقة" - كما قلت لك - قد تحولّها إلى بؤرة عنف تتناقض مع الفكرة، عندما تتصادم أسس أى فكرة مع عملية تجسيدها فإن هذا التصادم فى حد ذاته يجب أن يدلنا على أن هناك خللاً ما فى مكان لابد أن نبحث عنه. وأن نكشف موضعه ثم نحاول إصلاح الخلل هل هو "عندنا"، هل هو "عندكم". أم هو عضوى" فى الفكرة ذاتها؟
هذا هو موقفى هذه هى مخاوفى!
ربما تختلف معى، أعرف أنك سوف تختلف معى، دع موضوع اليهود وإسرائيل كله إلى آخر حديثنا دعنى أسمعك فيما كنت تريد أن تسألنى فيه".
قلت لـ "آينشتين":
- "دعنى أولاً أسألك فى موضوع شكلى. إننى لا أعرف كيف أوجه الخطاب اليك، فهل أستطيع أن أستعمل لقب "بروفيسور"؟ - إننى كنت حائراً فى هذا الموضوع وأنا أضغط زر الجرس على باب بيتك. كنت أفاضل بين مناداتك بـ "الدكتور آينشتين"، "المستر آينشتين" - لكن شقيقتك التى فتحت لى الباب قدمت لى على الفور ما أتصور أنه حل موفق. أشارت إليك بلقب "البروفيسور" - فهل أستطيع أن أستعمله أنا أيضاً"؟
ورد على عجل وبنفس الحياء والتردد:
- "لا بأس. لا بأس".
قلت ما مؤداه "أننى كنت أريد أن أسأله فى عدة قضايا. بينها نظرياته. وبينها حياته. وبينها القنبلة الذرية. وبينها سلام العالم فى ظلها. وبينها كل هذه القصص والقضايا والمحاكمات عن تسرب أسرار "القنبلة" إلى الروس وعلاقة ذلك بما يسمونه "ثورة العلماء". ثم جو الهيستيريا الذى رأيته يجتاح أمريكا هذه الأيام. ثم ما أحسست به من بدايات حملة عليه هو شخصياً. وقد لاحظت أنه يفضل الحديث المفتوح والمرسل، ولهذا فأنا أطرح رؤوس قضايا أريد أن أسمعه فيها، محتفظاً بحقى فى أسئلة محددة إذا وجدت لذلك ضرورة فى سياق الكلام".
وقال "البروفيسور":
- "هذا أسلوب لا بأس به، والحقيقة أننى لا أحب طريقة الاستجواب. الاستجواب يحيط أى حديث بأسلاك شائكة".
وسكت لحظة ثم استأنف حديثه:
- "إنك أثرت قضايا كثيرة، بعضها متشابك. الحقيقة أن كل القضايا متشابكة. كلها متصلة. الأصل فى كل القضايا واحد. الطبيعة والإنسان. الحياة فى الكون.
أنت سألت عن نظرية النسبية، وهذا تفصيل. هل تهمك معادلات النظرية؟ أستطيع أن أعطيك كتاباً عنها، لكن ذلك ليس مهماً. هناك ما هو أهم منه....".
وتنحنحت قبل أن أعترض بسؤال:
- "لم يكن ذلك ما أردت معرفته. لم أقصد المعادلات الرياضية، قصدت اكتشاف النظرية نفسها. هذا الاكتشاف الذى حقق لك مكانتك فى عالمنا"؟
وقاطعنى "البروفيسور" بدوره:
- "حسناً... حسناً. لا بأس. أريد أن تعرف أنه ليس هناك إنسان فى الدنيا يجلس إلى مكتبه أو فى معمله وفى قصده أن يكتشف نظرية. مثل ذلك لا يحدث.
أظننى أوافق على رأى "براتراند راسل" (الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطانى الكبير الذى قاد حملة السلام العظمى بعد القنبلة الذرية). "برتراند راسل" يقول إن اكتشاف أى نظرية فى أى جانب من الجوانب معلق بمعادلة رياضية صاغها على النحو التالى: إرادة إنسانية + خيال طليق + علم بموضوع البحث عميق، ثم انتظار لحظة إلهام تعطيك تصوراً مترابطاً تطرحه للاختبار.
ذلك ما يحدث. ذلك ما حدث لى. هذا أيضاً يدخل فى باب التفاصيل. أريد فى الإجابة عن كل أسئلتك أو أعود إلى ما كنت أحدثك فيه عندما فتحت معك موضوع اليهود فى إسرائيل. إننى قلت لك إن شواغلى بهذا الموضـوع وغيره - إنسانية. كنت أحدثك عن مخاوفى من الوطنية الضيقة. ليس فى إسرائيل وحدها وإنما باتساع العالم كله. على امتداد التاريخ كله.
مشكلتنا الآن هى نفس المشكلة القديمة: أن قوة الإنسان سبقت يقظة ضميره. وأن نمو عضلاته جاء قبل نمو تفكيره".
(كان هذا هو الجزء الذى ركزت عليه فى حديثى مع "آينشتين" حينما نشرت أجزاءً من حوارى معه فى حينه فى مجلة "آخر ساعة"، ومنه كان عنوانه الرئيسى).
و"قاطعت "البروفيسور" بسؤال مرة أخرى:
- "هل أسألك بصراحة، إنك تلح كثيراً على مخاطر الوطنية الضيقة كأنك تتحدث عن عالم بغير حدود وطنية - فهل ترى ذلك متاحاً، أو ممكناً فى يوم من الأيام؟
إن هذه النظرة العالمية الشاملة تجعلنى أتساءل عن جذورها فى تفكيرك؟ هل مرجعها إلى يهوديتك التى لم تعرف وطناً؟
هل مرجعها إلى طبيعة عملك كعالم مهتم بالكون وقوانينه التى لا تعرف الحدود الوطنية؟
أليست الحدود الوطنية واقع مجتمعات "إنسانية " - إذا جاز لى استعمال تعبيرك - وأليست هذه المجتمعات الوطنية أطراف فى صراعات متعددة المظاهر:
اقتصادية - اجتماعية - حضارية.. إلى آخره؟".
وأمسك "البروفيسور" بذراعى وضغط عليها - ثم قال:
- هذه هى النقطة المهمة.
إنكم الآن فى زمن جديد تماماً فى زمن الطاقة النووية كل الصراعات التى عددتها يجب أن تختفى لأنكم لا تملكون القدرة على إدارتها فى ظل "القنبلة". إنكم لا تعرفون ما تتحدثون عنه. تتحدثون عن السلاح الذرى وعن عصر القوة النووية وأنتم لا تستطيعون - ولا حتى فى أقصى حالات جموح خيالكم - أن تلموا بأطراف الحقيقة. ببساطة: لا تستطيعون".
قلت:
- "لماذا توجه لى الحديث بـ "أنتم" - نحن فى مصر، أو نحن العرب ليست لدينا أسلحة ذرية أو نووية".
قال بنفاد صبر:
- لا زلت تتحدث بمفهوم الوطنية الضيقة لم أتحدث عنكم فى مصر ولا عنكم كعرب ولا عنهم كإسرائيليين أو أمريكيين أو روس، أتحدث عنكم كجنس بشرى أتحدث عن أجيال جديدة من الجنس البشرى. إنك شاب وسوف تكون هناك عندما تتضح وتتأكد لكم حقائق القنبلة، أما أنا فلن أكون هناك لهذا استعملت التعبير "أنتم" أنتم سوف ترون فى يوم من الأيام أن الحرب العالمية إذا وقعت مرة أخرى فلا يمكن أن تدور بغير استعمال "القنبلة" ثم إنكم أيضاً سوف تتأكدون فى يوم من الأيام بأنه إذا استعملت "القنبلة" فى حرب عالمية فلن يتبقى بعدها عالم.
أكرر لك أنكم لا تعرفون ما تتحدثون عنه.
إن كلاما كثيراً فى الصحف الآن يكتب عن مفاوضات لتقييد إنتاج واستعمال السلاح الذرى والنووى، وأنا أشك فى أن أى مجموعة من المتفاوضين من أى جنسية وعلى أى درجة من الكفاءة يستطيعون اليوم أو غداً أن يتحدثوا بقوة عن "القنبلة" وأن يجلسوا ليشرعوا لها حدوداً.
لا أعرف كيف؟ ببساطة هذه مهمة تفوق طاقة البشر!
الحل الوحـيد هو نزع السلاح تماماً، أو تكون النتيجة كارثة محققة، وليس هنالك حل وسط!".
[لم نكن أيامها قد عرفنا بعد ما نعرفه الآن.
كل ما كنا نعرفه فى ذلك الوقت هو بعض النتائج الأولية من انفجار القنبلة الذرية فوق "هيروشيما" فى 6 أغسطس سنة 1945، ثم انفجار قنبلة ذرية ثانية فوق "نجازاكى" بعدها بيومين.
وكنا نعرف أن عدد القتلى فى "هيروشيما" كان قرابة مائة ألف. ومع ذلك فإن هذا الرقم لم يلفت نظرنا بأكثر من ضخامته العددية.
فيما بعد عرفنا قوة الإبادة: إبادة الانفجار. إبادة تساقط الغبار الذرى. إبادة الإشعاع. وأخيراً سمعنا عن الإبادة التى يمكن أن يحدثها ما يسمونه الآن "الصقيع النووى".. إن مخلفات الانفجار سوف تحجب أشعة الشمس عن الأرض وتعيد الدنيا إلى عصر من الجليد والظلام تتجمد بهما الحياة البشرية إلى الأبد!
فيما بعد عرفنا نظريات "الردع الشامل" و"التدمير المتبادل" والصواريخ العابرة للقارات والمحيطات. والكامنة فى أعماق البحار والمتربصة فى أبعاد الفضاء.
فيما بعد عرفنا وتعلمنا عملية حساب بسيطة تقول لنا أن السباق النووى بين أطراف هذا السباق يصنع - ومنذ إلقاء القنبلة على هيروشيما" - قنبلة مثلها فى كل ربع ساعة، أى قرابة مائة قنبلة من هذا العيار كل يوم! - ومن يوم "هيروشيما" إلى الآن أربعون سنة. أى أن المخزون الجاهز الآن فى العالم يساوى مليون وأربعمائة وستون ألف قنبلة من طراز "هيروشيما" التى نعرف الآن أن ضحاياها من القتلى أكثر من مائتى ألف. غير كوارث الإشعاع وهى مازالت فاعلة حتى اليوم].
ولمحنى "البروفيسور" أحاول أن أسترق النظر إلى ساعتى.
وسألنى (لم يكن يحمل ساعة) عن الساعة الآن وقلت: "الثالثة والنصف إلا خمس دقائق!
وتطلعت إليه أسمع حكمه على الوقت وقال: "لا بأس سوف نبدأ العودة سأختار طريقاً آخر أطول، إلا إذا كنت تعبت من المشى؟ "ونفيت ظنه، وبدأنا طريق العودة وعاد هو أيضاً إلى حديثه - قال:
- "إنك سألتنى عما إذا كانت نظريتى العالمية راجعة إلى يهوديتى أو إلى اشتغالى بالطبيعة.
لا أعرف، ومع ذلك فإنى آمل أن تفهمنى إذا قلت لك أنى لست متديناً.
اليهودية بالنسبة لى هوية ثقافية.. مواريث حضارية إنسانية بالتالى، العلم كذلك.. شاغلى حضارى إنسانى ليست هناك مثل هذه الخطوط الحادة تقسم وتفرق وحدة الكون ووحدة القانون الذى ينتظم الكل فى حركته.
بالطبع إن أفكارنا تتأثر بتجاربنا. تتبلور وتتركز بهذه التجارب.
إننى عشت فى ألمانيا أيام القيصر وعشت فيها بداية أيام "هتلر" وكان أول شعور اكتشفته فى نفسى هو كراهية الحرب.. لم تكن هناك "القنبلة" بعد، ما كنت أكرهه لم يكن الدم الذى يسيل والأجساد التى تسقط والانفجارات التى تدوى.
لم يكن ذلك ولكن الفكرة نفسها.
فكرة أن تأخذ أحسن عناصر شعب، شبابه، ثم تعلمه شيئين: إطاعة الأوامر - أية أوامر - دون مراجعة، ثم أن يمارس القتل المنظم حين يصدر إليه الأمر بذلك.
فكرة الحرب معناها بعد ذلك قيام مؤسسة للحرب تعطى نفسها حقاً فوق أى فكرة فوق أى تعبير وفوق أى عمل.
هكذا فإن فكرة الحرب تقتل أولاً فكرة الحرية.
ثم إن فكرة الحرب تقتضى ما يسمونه تعبئة كل الموارد، وهكذا يستنزف البشر والطبيعة والموارد.
ليس هناك رجل يستحق أن يكون مسيحياً، أو يهودياً، أو مسلماً إذا كان مستعداً للقتل إذا أصدر إليه الأمر بالقتل.
وليست هناك قضية تتعلق بالإنسان يطاوعنى قلبى على تركها فى يد جنرال!
فى ظل "فكرة الحرب" - الفكرة ذاتها - تفقد المجتمعات الإنسانية إنسانيتها تفقد أجمل ما فيها حتى العلم والأدب والفكر.
العلم يبيع نفسه لصالح الحرب، والأدب يبيع نفسه لحساب السياسة، والفكر يبيع نفسه لقيود الوطنية الضيقة".
كان "البروفيسور" متدفقاً ولم أكن أريد مقاطعته. لكنى لم أتمالك نفسى أن أعلق على ما سمعت، فقلت ما معناه "إن ما أسمعه رائع لكن مشكلته هى أنه فى المطلق يتغافل عن الواقع "الإنسانى"، ثم إنه أيضاً يتناسى "فكرة القانون" الذى يحكم تناقضات المصالح فى حالة غياب فكرة الحرب.
وقال "البروفيسور" بسرعة:
- "تماماً.. ولهذا فإننى فى الوقت الذى دعوت فيه لنبذ فكرة الحرب دعوت أيضاً لفكرة الحكومة العالمية، وهو ما دفعنى أن أجىء إلى أمريكا.
إن كثيرين يعتقدون أننى جئت إلى أمريكا لاجئاً من النازية، ولم يكن ذلك دقيقاً. لم أكن أحب النازيين ولا أظنهم كانوا يحبوننى. تفكيرهم كله كان قائماً على فكرة الحرب. إنهم لم يتعرضوا لى بشىء أستطيع أن أمسك به دليلاً ضدهم، ولكن الجو المحيط بى كله كان ضاغطاً بسبب فكرة الحرب واختلاطها بفكرة الوطنية الضيقة!
إننى قلت لنفسى إن القارة القديمة كلها (أوروبا) ليست قادرة على فهم واستيعاب الحقائق الجديدة، ولكن القارة الجديدة (أمريكا) تفوز بالقوة والشباب والتفتح.
وحينما جئت إلى أمريكا نهـائياً فى سنة 1933 أحسست أن المناخ العام مختلف عنه فى أوروبا. تركونى أتحدث بحرية عن فكرة حكومة عالمية، وتركونى أوجه نداءاً إلى شباب العالم بأن يرفض الخدمة العسكرية. كان رأيى أن ذلك سوف يضع الساسة والجنرالات فى مأزق. سوف يصدرون أوامر ولن يطيعها أحد".
وتوقف "البروفيسور" وانحنى يلتقط قرناً جافاً سقط على الأرض من فرع شجرة وكسر طرفاً منه وتساقطت بعض البذور فى راحة يده، ثم قال:
- "أنت لا تعـرف أية حياة بديعة يمكن أن تنبثق من هذه البذور عندما تحتضنها تربة الأرض؟".
وابتسمت، وأدرك ما اتجه إليه تفكيرى وقال:
- "كثيرون غـيرك اتهمونى بأننى شاعر خيالى وحالم. إنكم تأخذون الطبيعة قضية مسلماً بها. هى موجودة فقط. مجرد وجود. تنسون أنها حية تحكمها نفس القوانين التى تحكمكم. لها روح ولها عقل. هذا الطائر (أشار بيده إلى طائر يحلق أمامنا) يعرف عن الجغرافيا أكثر مما نعرف. يطير مئات الأميال ثم يعود إلى بيته، ويهاجر فى الربيع والخريف ثم يعود من حيث أتى. لا يفقد اتجاهه. أما نحن فقد فقدنا الاتجاه لأن الفرد أسلم نفسه لفكرة الدولة كأن الدولة هى التى صنعت الإنسان وليس الإنسان هو الذى صنع فكرة الدولة.
ليس مثالية ما أحدثك فيه الآن وليس خيالاً، وعلى أى حال فإذا كان مثالية أو خيالاً قبل "القنبلة" - فإنه الآن بعد "القنبلة" لم يعد يصح أن يكون مجالاً لخلاف!
لا يجوز أن نختلف الآن، الاختلاف يجوز فى قضية فكر لأنها موضوع "اجتهاد"، لكن الخلاف غير جائز فى قضية علم لأنها موضوع "قانون"، وفى كل الظروف فإن علينا أن نتحمل المسئولية الاجتماعية والإنسانية. على الذين يفكرون ويعرفون أن يتحملوا مسئوليتهم الاجتماعية والإنسانية. أنا هنا لا أتحدث عن الالتزام السياسى للمفكر أو العالم. ذلك مفهوم أكرهه. ليس الالتزام وإنما المسئولية".
.....................
.....................
[فى ظروفنا القريبة والراهنة فى العالم العربى عدة مرات إلى حديث "البروفيسور" حول قضية المسئولية الاجتماعية والإنسانية للمفكر والعالم.
الحقيقة أن هذه القضية شغلتنى زمناً طويلاً، ولو تركت رؤيتى لها تجرى على الورق مفصلة لما كفتها بقية هذا الكتاب كله. ولعلى أجازف بعرض بعض تأملاتى فيها مختصرة وملخصة كما يلى:
- أولاً: أجدنى على استعداد لأن أكون أكثر رفقاً بـ "العالم" العربى وأقل رفقاً بـ "المفكر" العربى.
والسبب فى اختلاف مقاييسى مع الاثنين - فيما أظن - واضح. ذلك أن "العلم" عائد إلى بلادنا ولا أقول وافد، فلقد ازدهر فيها زمناً طويلاً ثم طردته جهالة عصور بعض المماليك والعثمانيين من بعدهم، وأخيراً تمكن من العودة إلى استحياء. وعلى أية حال فهو ما زال تابعاً لأنه بعد فى مرحلة النقل.
هكذا نجده غير قادر حتى الآن على تحمل مسئولية اجتماعية أو إنسانية، وهذا- إلى حد ما- طبيعى. من هذا التصور فإننا نجد العلم فى واحد من ثلاثة مواقف:
1- العلم وظيفة مكتبية يؤديها صاحبها فى الحدود الضيقة للوظيفة المكتبية.
2- العلم سلم للصعود السياسى بالشكل المباشر وأقصاه منصب الوزارة.
3- العلم زيادة فى السعر وليس زيادة فى القيمة. وسيلة إلى غنى وثروة وحياة مترفة (جزء كبير من قصة بعض العلميين فى مصر مثلاً).
وقلت إن ذلك إلى حد ما طبيعى، فتلك قد تكون بدايات حائرة لعائد ما زال يتحسس طريقه ولم يصل بعد إلى موقعه ودوره - من هنا الرفق بـ "العالم" العربى!
- ثانياً: فإذا وصلنا "المفكر" العربى فإن دواعى الرفق تصبح أقل، ذلك أن الفكر فى بلادنا لم يخرج. لقد أرغم على السكون فى بعض لحظات تاريخنا، ولكنه لم يهاجر. ولقد عرف تاريخنا القريب نماذج عديدة من "المفكر" الذى استطاع تمييز مسئوليته الاجتماعية والإنسانية وحمل أعباءها: "رفاعة رافع الطهطاوى" و"على مبارك" فى الدعوة إلى التعليم. الشيخان العظيمان "جمال الدين الأفغانى" و"محمد عبده" فى حمل لواء التنوير والتحرير. بل وإلى سنوات قليلة كان بيننا "طه حسين" بصيحته العظيمة بأن المدرسة حق لكل الناس مثل الماء والهواء.
لكن انكساراً ما فى خط التقدم حدث فى ظروف الحرب العالمية الثانية، فقد انفتحت كل الأبواب فى العالم العربى على مصاريعها لتيارات وقوى عالمية اقتحمت الأبواب والنوافذ واكتسحت فى طريقها ركائز ورواسى كثيرة، حتى بعض التضاريس والمعالم الطبيعية فى عوالم الفكر والثقافة.
ووجدنا أنفسنا وسط حالة خلط مخيف.
ولقد حاولت الحركة القومية - خصوصاً بعد ثورة 23 يوليو 1952 - أن تعيد ترتيب الساحة العربية - لكن قوى السيطرة المسلحة تصدت بالعنف، ثم لحقتها الموجة العاتية لسيولة أموال النفط بالغواية، وعادت الساحة العربية أكثر ما تكون فوضى وضياعاً.
وكان أعمدة الفكر تهتز.... ثم راحت تعوم..... ووجدنا أنفسنا أمام الصورة التى تطالعنا الآن والتى لا سبيل إلى إنكار حقيقتها الكبرى وهى أن "الفكر" تخلى وأتردد كثيراً قبل أن أقول إن "الفكر" خان. ولا أظن أن طلب الرأفة هو دافع ترددى فى الحكم وإنما الدوافع موضوعية:
1- لا ينبغى أن نحسب على "الفكر" ما ليس منه. فليس من "الفكر" كل هذا الذى ينشر فى الصحف السيارة كل يوم. فالصحافة فى العالم العربى - شأن الصحافة فى العالم كله - جزء من الحياة السياسية لمجتمعاتها. كما هى السياسة تكون الصحافة. والباقى مفهوم أو يمكن فهمه!
2- لا ينبغى أن نحسب على "الفكر" ما نراه كل يوم من محاولات "حكاية" التاريخ وإعادة كتابته. كل هذه ليست محاولات "فكر" يبحث عن الحقيقة ولكنها محاولات سياسة تخوض معارك سياسة ولو أن الذين كتبوا قدموا مجرد شهادات موثقة للتاريخ لكان جهدهم فى نطاق معقول ومقبول. ولكن أن يتصدوا للتأريخ ليقولوا الكلمة النهائية فى كل شىء وهم لم يعيشوا الوقائع ولم ينتظروا سجلاتها ولم يحللوا منطق الحوادث ذاته - فإن الأمر يصبح غير مقبول أو على الأقل غير مستساغ. وفى كل الأحوال فإننا لا نستطيع اعتباره محاولات "فكر" فضلاً عن أن يكون موقف مسئولية اجتماعية أو إنسانية.
3- لا ينبغـى أن نتعسف ونتصور أن "الفكر" يستطيع أن ينعزل عن "القيم" السائدة فى زمانه، وإذا كان السعر قد حل محل "القيمة" فى عصر النفط فإن علينا أن نأخذ هذا فى الحساب. ولا أريد أن أطيل فى هذه النقطة لأن هدفى أن أشرح وليس هدفى أن أجرح!
4- لا ينبغى أن ننسى أنه - رغم الطوفان - ما زالت هناك بيننا مراكز لـ "فكر" يحاول أن يتمسك بما يظن أنه مسئوليته الاجتماعية والإنسانية. لكن مشكلة هذه المراكز أنها فى معظمها "عقائدية". بعضها مجاله الدين السماوى وبعضها مجاله النظريات الوضعية، والمأزق الذى تجد هذه المراكز نفسها فيه هو حكم النصوص. لكن المحاولات فى هذه المراكز ما زالت يقظى وإن كانت أحياناً عصبية!
للإنصاف أكثر فإنه ما زالت هناك "أصوات" تحاول أن تقول شيئاً لكنها ما زالت بعد فى مرحلة الهمس المنفرد كعصفور يطل برأسه من داخل عشه فى جذوع الشجر ليرى إذا كانت عواصف الشتاء قد انقشعت وظهرت بعدها تباشير الربيع. وتكتشف العصافير أن ليل الشتاء ما زال مظلماً وما زال صقيعاً!
5- ولابد لنا من القول إنصافاً وعدلاً أن "الفكر" - شأنه شأن الفن - لا يستطيع أن يضرب بجذوره فى الأرض دون رعاية. لكى تستطيع البذرة أن تتحول إلى شجرة باسقة إنها تحتاج ليس فقط إلى شمس وماء وإنما تحتاج أيضاً إلى عناية ورعاية.
وفى تجـربة أوروبا كانت الرعاية فى يوم من الأيام للكنيسة، ثم تحولت من الكنيسة إلى الأمير، ثم قامت البرجوازية بالمهمة أحقاباً متصلة، وفى العصر الحديث عرفنا دور "المؤسسة" حتى استقرت الرعاية أخيراً فى يد الناس. خاصة الناس وعامتهم.
ولقد تشابهت - إلى حد ما - تجربتا مع تجربتهم وإن تأخرت عنها زمناً طويلاً.
شيوخ الفكر والفقه الإسلامى كانوا فى حمى أعمدة المسجد، وأعلام النهضة الأوروبية فى معظم المجالات كانوا فى حماية أبراج الكنيسة.
ولم يكن "مايكل انجلو" ممكنا فى عصر النهضة بغير أسرة "مديتشى"، ولا كان "محمود مختار" - مثّال نهضة مصر - ممكناً بغير "هدى شعراوى"
ولم يكن "شوقى" ممكناً بغير الخديو ولا كان "لطفى السيد" و"طه حسين" و"على عبد الرازق" جميعاً ممكنين بغير الطبقة الوسطى التى أفرزتها ملكية المصريين للأرض الزراعية فى أواخر القرن الماضى وبدايات القرن العشرين - بل إن الجامعة نفسها لم تكن ممكنة!
وإذا جاز لى أن أتحدث عن تجربة ذاتية فلقد حلمت فى يوم من الأيام بأننا فى العصر الذى يتحتم فيه على "المؤسسة" أن تقوم بدور "رعاية" الفكر.
ولقد تشرفت بأن الظروف أتاحت لى فرصة أن أجمع فى "الأهرام" معظم رؤوس الفكر والفن فى مصر. ولم يكن السبب هو مجرد احتياج صفحات الجريدة لأقلامهم، لكن هدفى كان أبعد. كان حلمى أن ثقة الناس أعطت لـ "الأهرام" وضع "المؤسسة"، وهذا يحملها - فوق الدور الصحفى - دوراً آخر أكبر منه قريباً من مجال اهتمامها.
ومن سوء الحظ أن المحاولة تعرضت لظروف غير مواتية، لكنها تظل محاولة تستحق الدراسة المتأنية فى يوم من الأيام.
6- أن الأعاصير جرفت فى مصر - وفى غيرها من العالم العربى - دور "رعاية الفكر". ذهب الأمير، وتبعثرت برجوازية ملاك الأرض، ولم تتمكن المؤسسة ولا استطاعت الجامعة، وانتقل الزمام إلى أيد لا تعرف - وربما لا تريد - فكراً أو فناً. ولقد وجد الناس - خاصتهم وعامتهم - أنفسهم فى حال غريب ضاع فيه المشروع العام (المسئولية الاجتماعية والإنسانية) ولم يبقى إلا المطلب الفردى (ممثلاً فى الغنى الشخصى) - وحين أصبح كل واحد ونفسه، وكل واحد فى مقابل الآخرين (لغياب رابطة المشروع العام) - وجد "الفكر" نفسه وحيداً أمام الرياح الهوج وعليه تدبير أمره. وتاهت حقائق وضاعت رؤى وانكسرت أعلام.
أصبح الحديث - فى هذا المناخ - مجرد الحديث عن المسئولية الاجتماعية والإنسانية لـ "المفكر" نوعاً من التطفل والتزيد على الأمر الواقع!!].
...................
..................
كنا قد وصلنا فى مسيرتنا إلى مفترق طرق بين غابات الشجر، وكان هناك عدد من شباب وشابات الجامعة يقفون فى ناحية من الباحة التى وصلنا إليها. وعرفوا "البروفيسور" واقتربت منه فتاة تطلب توقيعه على دفتر أخرجته من حقيبة يدها. ولم يكن معه قلم يوقع به وناولته قلمى وراح يوقع والشباب يتطلعون إليه وكأنهم فجأة أمام واحدة من الأساطير تجسدت حية وسط غابات الشجر.
ومشى ومشيت بجانبه إلى طريق فرعى كان هو الذى اختاره وصلة إلى بيته. وكانت خشيتى على الدقائق الباقية لى معه ولم أسأله فى كل ما أريد. وقطعت الصمت. سألته:
- "لقد كنا نتحدث عن المسئولية الاجتماعية والإنسانية للعلم، وكنت تشير إلى بعد جديد لهذه المسئولية فى العصر النووى. أليس العلماء - وأنت فى مقدمتهم - هم الذين فتحوا الباب للهول النووى ثم عادوا بعدها يبدون الندم على ما جرى ويحاولون تصحيح آثاره بأساليب يبدو بعضها عجيباً إذا صدقنا كل ما يقال فى معرض الحديث عن قضية "روزنبرج"؟!
.......................
......................
(كنت بذلك أشير إلى قضية مشهورة كانت شاغل الناس فى أمريكا وقتها، وقد حوكم فيها عدد من الأشخاص بينهم "جوليوس روزنبرج" وزوجته "راشيل" اللذان صدر عليهما حكم بالإعدام على الكرسى الكهربائى. كانت التهمة الموجهة إلى الجميع وبينهم "روزنبرج" وزوجته - أنهم سلموا إلى الروس أسراراً عن القنبلة الذرية مكنتهم من إنتاجـها بسرعة واللحاق بالولايات المتحدة فى امتلاكها. وكانت بعض التيارات فى أمريكا وأوروبا تحاول أن تحمل لواء "روزنبرج" وزوجته وتدافع عنهما كقديسين فى العصر النووى وليس كجواسيس لأنهم - ومن معهما فى القضية - كانوا مدفوعين فيما فعلوا بضرورات هذا العصر وليس بأى شىء آخر).
ويبدو أن سؤالى هذا الأخير لم يرق لـ "آينشتين"، فقد قطب حاجبيه وراح يهز رأسه نافياً بشدة، ولعلها كانت المرة الوحيدة التى ظهر فيها ضيقه طوال حديثنا.
قال:
- "لا. لا. لا. (كررها ثلاث مرات أو أربع وهو يهز رأسه نافياً) أنت أقحمت ثلاث موضوعات على بضعها دون مقتضى!
لابد من عملية فرز لهذه الموضوعات، وفصل لكل واحد منها عن الآخر وإلا عجزنا عن الوصول إلى نتيجة سليمة.
هناك أولاً موضوع مسئولية العلماء وأنا بينهم فى فتح الباب النووى - اسألنى عن هذا الموضوع سؤالاً منفرداً واضحاً وأنا أجيبك.
وهناك ثانياً موضوع ما تسميه أنت قضية "ندم العلماء" بعد القنبلة - اسألنى عنه سؤالاً منفرداً واضحاً وأنا أجيبك.
أما موضوع القضية التى أشرت إليها فهو موضوع ثالث لا تسألنى فيه لأننى لا أعرف له إجابة، وهو لا يخصنى".
وقلت له:
- "هل تطلب منى أن أوجه إليك سؤالاً منفرداً عن كل واحد من هذه الموضوعات؟".
وقال:
- "أنا لا أطلب.... أن تطلب إذا كنت تريد"؟ ورحت أعيد تقسيم وصياغة سؤالى على النحو الذى ارتآه. وكان "آينشتين" يسمعنى وهو يهز رأسه بالطول وليس بالعرض هذه المرة. بالموافقة وليس بالنفى كما حدث فى بداية سؤالى الأول المجمل والعام.
قال "البروفيسور":
- "لقد كانت صلتى بـ "القنبلة" من ناحيتين كلتاهما غير مباشرة. عملى الأصلى لم يكن له دخل بـ "القنبلة" لكن بعض ما توصلت إليه حول النسبية أثبت أن تكسير الذرة ممكن.
من ناحية أخرى - عملية - فإننى قمت بمحاولة لتنبيه "الحلفاء" إلى احتمالات القنبلة.
لقد كنا فى صيف سنة 1939 ولم تكن الحرب العالمية الثانية قد بدأت بعد لكن كل شىء فى الجو الدولى كان يجعلها أمراً شبه محتوم. فى هذا الوقت كان عدد كبير من أصدقائنا المشتغلين بالعلوم يتحركون بسرعة. كل واحد منهم لا يريد أن تنزل عليه ظروف الحرب فى مكان لا يريد أن يتواجد فيه. كل واحد يجرى بسرعة "ليضع الريش فى العش الذى يناسبه على الشجرة التى يفضلها" قبل أن ينقلب الجو.
فى تلك الظروف كان كثير من أصدقائنا فى القارة يعبرون المحيط إلى هنا مقدرين أن عملهم هناك معرض للانقطاع وهنا يستطيعون المواصلة. وبالفعل جاء كثيرون منهم ورتبوا أمورهم فى جامعات أمريكية رحبت بهم وفتحت كل تسهيلاتها لعملهم.
كلنا كنا مأخوذين بالحرب التى قد تنشب فى أى لحظة. وأنا شخصياً كنت أقضى ساعات فى مكتبى أفكر فيما عسى أن يكون مطلوباً أو مقرراً على العلم فى الحرب الجديدة. تصورت احتمالات كثيرة فى خيالى ولم يكن بينها احتمال استخدام التفجير النووى كسلاح حربى. غاب عنى هذا الاحتمال. لم أضعه فى قائمتى.
بعض الأصدقاء نبهونى إليه بطريقة أثارت مخاوفى. رووا لى تفاصيل عن أعمال اثنين من زمـلائنا فى ألمانيا (يقصد العالمين "أوتو هاهن" و"فريتز ستراسمان") وأنهما نجحا فى تكسير ذرة اليورانيوم. وانتابنى القلق، فلو أن "هتلر" استطاع أن يستخدم التفجير النووى فى الحرب لكانت تلك كارثة على الجنس البشرى بغير حدود. إذا لم يستعملها وبسط سلطانه على الدنيا فى ظل التهديد بها فهى العبودية الكاملة للجنس البشرى. وإذا ركب رأسه واستعملها فى الحرب فهو الدمار الشامل للجنس البشرى.
بعض زملائنا علموا أن ألمانيا تحصل على اليورانيوم من الكونجو البلجيكى، وكانوا يعرفون أن علاقة صداقة تربطنى من قديم بالأسرة المالكة البلجيكية، وطلبوا إلى أن أتدخل لدى أصدقائى لوقف حصول النازيين على اليورانيوم. وكنت أفكر فى مثل هذه الخطوة فعلاً. جاء إلى أحد زملائنا يقول لى أنه علم أن "هتلر" أوقف صادرات تشيكوسلوفاكيا من اليورانيوم بعد أن ضمها إليه هى الأخرى. وبدأت أتأكد من أن النازيين يفكرون فعلاً فى صنع "قنبلة".
وجلسنا ساعات طويلة نناقش المخاطر والعواقب، وكان رأيهم أن أكتب فى هذا الموضوع مباشرة لـ "روزفلت" (الرئيس الأمريكى "فرانكلين روزفلت"). وبالفعل كتبت إليه.
"كان خطابى إلى "روزفلت " مختصراً، عرضت أمامه مجمل الأبحاث حول تفجير الذرة واحتمالات صنع قنبلة بقوة تدمير هائلة. ونبهته إلى الجهود الألمانية فى هذا المجال. واقترحت عليه أن تهتم الولايات المتحدة بعدة أشياء: أبحاث مجموعة العلماء المتخصصين بهذا النوع من العلم فى أمريكا وإعطاء هذه الأبحاث دفعة قوية - ثم البحث عن مصادر كافية لأنواع من اليورانيوم الجيد وكان هناك الكثير منها فى مناجم كندا - ثم إيجاد جهاز مهمته إدارة هذا الجهد بهدف أن يسبقوا "هتلر " أو يلحقوا به على الأقل!
لم أعرف ماذا حدث لخطابى لكن "روزفلت " رد على بعد ثلاثة شهور تقريباً بخطاب أبدى فيه اهتمامه بما قلت، وقد استغربت أن رده تأخر كل هذا المدة فأنا كتبت إليه قبل قيام الحرب بشهر كامل وهو رد على بعد إعلانها بشهرين.
المهم أنهم اهتموا بالموضوع.
تعاونوا مع إنجلترا - وكانت مهتمة بالموضوع - ومع كندا وأنشأوا مجمعاً لأبحاثها وصنعها فى صحراء نيومكسيكو أعطوا إدارته العلمية لـ "أوبنهيمر المسكين" (عالم الطبيعة الشهير "روبرت أوبنهيمر" وزميل "آينشتين" فى جامعة برنستون. وكان "أوبنهيمر" يتعرض وقتها - 1952 - لحملة عنيفة فى الصحافة الأمريكية، وكان قد أقصى من هيئة الطاقة الذرية الأمريكية فى جو من الشك بتهمة أنه أغمض عينيه بينما أسرار "القنبلة" يجرى تسريبها إلى روسيا.
- "لم أكن قريباً من عملية إنتاج "القنبلة" ولكنى كنت أتابع تقدم المشروع من بعيد، وكان أكثر ما يعنينى أن لا يسبق "هتلر" إلى صنعها.
المشروع كان يتقدم على نحو مرض، وكذلك كانت الحرب ضد النازية.
واستسلمت النازية - كما تعلم - ولم تكن هناك حاجة إلى استعمال "القنبلة" على فرض أنها كانت جاهزة للاستعمال، وتنفست - كما تنفس غيرى - من الذين كانوا يعرفون بارتياح!
بعض أصدقائى، "زيلارد" بالتحديد - (يقصد العالم الشهير "ليو زيلارد" أستاذ الطبيعة فى جامعة كولومبيا) - عاد يطلب منى أن أكتب للرئيس الأمريكى الجديد "ترومان" الذى خلف "روزفلت" بعد وفاته بالامتناع عن استعمال القنبلة الذرية لأنه لم يعد لذلك داع.
الحرب ضد الفاشستية كانت قد انتهت تقريباً، النازيون استسلموا، وحلفاؤهم فى طوكيو لم يعد فى مقدورهم الوقوف وحدهم، ثم إنهم لم يكونوا طرفاً فى السباق على التفجير النووى.
لم أتحمس للكتابة لـ "ترومان" فالناس غيرنا أيضاً لهم عقول، وما دمنا نحن نرى أن دواعى استخدام "القنبلة" قد انتفت فلابد للآخرين - خصوصاً إذا كانت فى يدهم مسئولية القرار - يعرفون أيضاً!
وفوجـئنا بإلقاء القنبلة الذرية الأولى على "هيروشيما" ثم القنبلة الذرية الثانية على "ناجازاكى".
إننى أصبت بحالة من "الغضب" و"القرف" عندما سمعت الأخبار، لم يكن هناك ما يحتم ذلك لأن الحرب كانت قد انتهت فعلاً، وأن يزيح أى إنسان بيده الستار عن الرعب النووى فهذه قضية فظيعة... فظيعة...".
وسكت "البروفيسور" وانتهزت الفرصة لأبدى ملاحظة أقول فيها "إننى عندما كنت فى نيويورك - قبل أن أجئ إلى برنستون لمقابلته - سمعت من أحد كبار الدبلوماسيين المصريين فى الأمم المتحدة (كنت أقصد الدكتور "محمود عزمى") أن المندوب السوفيتى الدائم فى الأمم المتحدة "فيشنسكى" قال له - الدكتور "محمود عزمى". - إن "ترومان" قرر استخدام "القنبلة" الذرية ضد اليابان لإرهاب الاتحاد السوفيتى - بفعل المستقبل - وليس لإخضاع اليابان - بالفعل الماضى - لأن اليابان كانت جاهزة للخضوع تماماً وكانت توسط الاتحاد السوفيتى - حليف أمريكا - لبحث شروط الاستسلام".
ورد "آينشتين":
- لا أعرف على أى أساس بنى "فيشنسكى" كلامه لصديقك. هذه نقطة لا أستطيع أن أفصل فيها. أنا أتحدث عما أعرفه. نوايا ترومان الحقيقية لا أعرفها.
أنا أعرف شيئاً واحداً.
أعرف أنه لو خطر ببالى أن "هتلر" سوف يتعثر فى مشروعه لصنع قنبلة ذرية، وأن الاستسلام سوف يفرض عليه بقوة الأسلحة التقليدية - لما كنت كتبت لـ "روزفلت" ألفت نظره إلى "القنبلة" لأننى لا أقول أن هذا كان كفيلاً بتغيير مجرى التاريخ، لكنه على الأقل كان يبرئ ضميرى، يبرئه ولا يعفيه من المسئولية، فنحن لسنا فقط مسئولين عما نصنعه بأيدينا وإنما علينا المسئولية إزاء ما يصنعه الكل وما يلحق بالكل. أغلب الظن أن "القنبلة" كانت قادمة على الطريق، هناك أشياء يحين وقتها، وعندما يحين فليس هناك سبيل لوقف تدفق التيار، لكننا لا نستطيع أن نترك التيار يجرفنا إلى الهاوية ونحن لا نفعل شيئاً.
حتى الآن - أنا أصر على ذلك - لا يعرف معظم الناس حـقائق الزمن النووى، تفجير الذرة، وإمكانية السيطرة على هذا التفجير، وتوجيه استخدامه عسكرياً - قبل كل شىء، لم تعد الحرب ممكنة. ببساطة ليست ممكنة، مجرى التاريخ كله يختلف، لم تعد له علاقة بالماضى، كل ما يقال عن فكرة الحرب، وفكرة الدولة، وحتى فكرة السيادة - أصبح فى حاجة إلى مراجعة.
كان علينا "نحن" أن نتحمل بالمسئولية الاجتماعية والإنسانية، لماذا؟ لأننا نعرف أكثر من غيرنا - بحكم عملنا - نوعية المخاطر الكامنة.
حاولنا. اجتمعنا مرات عديدة ثم كتبنا تقريراً نشر وقتها بعنوان "عالم واحد أو لا شىء" إذا لم تكن قد اطلعت عليه فسأطلب إليهم فى برنستون أن يبعثوا لك بنسخة منه". لم أكن قرأته، ولحقتنى فى نيويورك بالفعل نسخة منه بعد أيام".
كان ملخص ما قلناه فى هذا التقرير "إن الحرب مستحيلة فى العصر النووى، وإن سر القنبلة الذرية لا يمكن الاحتفاظ به طويلاً حكراً لدولة واحدة، ولم يعد ممكناً حفظ السلام فى نظام حكومات ذات سيادة وطنية.
وإن الدولة الوطنية فى ظل التهديد بالحرب النووية سوف تجد نفسها - حتى إذا لم ترد - سلطة ديكتاتورية، ثم إنه لم يعد فى مقدور أى دولة أن تحمى مواطنيها من أهوال الحرب، وأخيراً فإن الأوضاع الجديدة تقتضى نظاماً عالمياً جديداً".
ولم نترك ما قلناه دون تحديد، وإنما اقترحنا أن تتحول الأمم المتحدة إلى حكومة عالمية يكون أول اختصاصاتها الإشراف على الطاقة النووية وكل ما يتصل بها.
مر على "أوبنهيمر" المسكين هنا فى البيت، كان قد جاء إلى "برنستون" يحاول أن يلغى انتدابه للإشراف على "المشروع" وكان فى حالة اكتئاب لأن قراراً صدر بوضع الطاقة النووية تحت الخدمة العاملة فى إطار الجيش الأميركى. كان ذلك معناه أن هناك من يتعاملون مع "القنبلة" على أنها مجرد سلاح آخر، مثل الدبابة والمدفع والغواصة، عندما أسر إلى بما عنده قلت له: "هذا جنون مؤكد يقدم عليه ناس لا يعرفون شيئاً".
بعثت برسالة إلى "ترومان" مع صديق شخصى له. عاد إلى هذا الصديق باقتراح لقاء مع وزير الخارجية "أتشيسون". التقينا على عشاء فى نيويورك فى بيت "باروخ" ("برنارد باروخ"). حدثت "أتشيسون" بمخاوفى لكنه تكلم كسياسى. كانوا يتصورون أن سر "القنبلة" يمكن أن يبقى حكراً لهم. وكانوا يحلمون أن ذلك سوف يمكنهم من فرض إرادة عالمية واحدة. وكانوا يتوهمون أن "السلام" يمكن فرضه على هذا النحو!
كل ذلك كان خطأ فى خطأ.
"أتشيسون" طلب منى فى هذا اللقاء - لست متأكداً مما إذا كان الطلب منه أو باسم الرئيس - أن "أقلل" من نشاطى فى لفت الأنظار إلى خطر "القنبلة" وإلى استحالة احتكارها، وإلى ضرورة قيام حكومة عالمية.
قال لى إن آخرين يستغلون هذا النشاط وإن هناك "حمراً" (شيوعيين) كثيرين يروجون لدعوة تسليم سر "القنبلة" إلى آخرين لكسر احتكار امتلاكها باعتبار أن ذلك وحده هو الكفيل بمنع استخدامها بسبب التوازن الذى يمكن أن ينشأ بعد ذلك إذا انكسر الاحتكار الأمريكى.
قلت له (لـ "أتشيسون") إننى لا أوافق على إعطاء سر "القنبلة" للروس مثلاً، ولكنى أطالب بإعطائه لحكومة عالمية، ولا أرى سبيلاً غير ذلك مع القوة الجديدة ومخاطرها.
كان رأيه إننى "عالم حالم" ولست "سياسياً عملياً" - مثلهم.
ولم يكن "أتشيسون" يشك فى مقاصدى، ولكن يظهر أن الشكوك بدأت تراودهم فى شأن غيرى على أية حال فإن الهستيريا بدأت فى أمريكا واتسعت بسرعة، الأمريكيون - الذين تعبوا من الحرب - كانوا يظنون أن "القنبلة" و"احتكار سرها" سوف يعطيهم أخيراً إمكانية فرض سلامهم على الدنيا.
خطأ. خطأ. لم يستطيعوا الإمساك بأطراف الحقائق الجديدة".
وقاطعت "البروفيسور" أسأله مرة أخرى "عما إذا كان الخوف من احتكار سر "القنبلة" والرغبة فى إحداث توازن دولى هو الدافع الحقيقى وراء موقف العالم البريطانى "كلاوس فوخس" فى تسليم أسرار "القنبلة" إلى الروس"؟ (كان "فوخس" قد قبض عليه فعلاً وحوكم وحكم عليه بالسجن عشرين سنة، وكان دفاعه عن نفسه فى محاكمته السرية أنه لم يسلم للروس سر "القنبلة" لقاء مال وإنما سلمه بدافع الضمير الإنسانى الذى حرك ثورة العلماء الذين صنعوا "القنبلة" ووضعهم أمام "جريمة" ما ابتلوا الإنسانية به. ثم إنهم مع استحالة قيام الحكومة العالمية رأى بعضهم أن الحل الوحيد هو إعطاء سر "القنبلة" إلى المعسكر الآخر حتى ينكسر الاحتكار وتنفتح الفرصة أمام توازن يحول دون استعمال "القنبلة")
ورد "أينشتين" بسرعة:
- "أستطيع أن أقول عن موقف "فوخس" وغيره من هؤلاء الذين شاركوا فيما تسميه أنت وغيرك ثورة العلماء - كان "خطأً". أما أنه كان "جريمة" فلست أنا الذى يستطيع أن يفصل فى هذا الأمر. لم يكن الحل فى رأيى هو أن نعطى سر "القنبلة" للروس، وإنما كان يجب إعطاؤه لنظام عالمى جديد.
كان هذا رأيى وما يزال.
إذا "كانوا" قد عجزوا عن استيعاب فكرة الحكومة العالمية فقد كان الخطأ فى عقول الرجال وليس فى صواب الفكرة.
لكن أمريكا لم تكن على استعداد لأن تسمع أفكاراً فى جو الهيستريا الذى سادها. نزعات السيطرة والخوف والأمل التى صاحبت تفجير "القنبلة" واحتكار سرها.
حكاية "فوخس" وحكاية "روزنبرج" فتحت الأبواب فى أمريكا لهيستريا مخيفة. نوع من محاكم التفتيش الفكرية بعثت من جديد فى العالم الجديد، وانطلقت كلاب الصيد تبحث عن فرائس من العلماء والمفكرين تتهمهم جميعاً بـ "النشاط المعادى لأمريكا".
جنون. لا أعرف ما الذى ساقهم إليه فى هذا البلد الذى قام أساساً على فكرة حرية الاختيار وقام أساساً على فكرة حرية الفرد.
لم يتعرضوا لى مباشرة، ولكن قيل لى أخيراً إن أحد أعضاء مجلس الشيوخ قام وهاجمنى بدعوى أننى "طرى" فى نظرتى إلى الخطر الشيوعى، وأننى أتصدى لمشاكل لا أفهمها. فى رأيه أننى "قاصر" سياسياً يتطاول على أمن وسلامة الولايات المتحدة وهو أجنبى غريب عنها.
أليس هذا غريباً؟ الآن يشيرون إلى أصلى الألمانى، كلهم هنا من أصول أوروبية، لم يكن هناك أصليون فى أمريكا غير الهنود الحمر - فلماذا يعيرونى بالأصل الألمانى؟ أنا اخترت أمريكا باختيارى الحر ولست نادماً على ذلك، لكنى خائف على أمريكا من هيستريا القوة".
كان بيت "البروفيسور" قد ظهر لنا بين غابات الشجر، لقد انتهت رحلة المشى وبالتالى انتهت مقابلتى معه ونظرت فى ساعتى وكنت قد أخذت ساعة وخمس دقائق من وقته. وتوقعت أن يصافحنى وأن أتركه عائداً إلى محطة القطار فى برنستون أعود به إلى نيويورك - لكنه دعانى إلى داخل البيت. إلى فنجان شاى لأن "دوره قد جاء ليسألنى فيما أراد منذ بداية لقائنا أن يسألنى فيه".
ودخلت وراءه، وسألنى ببساطة شديدة - وقد تحول من عالم عظيم إلى مجرد مضيف كريم - إذا كنت أريد أن أذهب إلى الحمام ريثما يذهب هو إلى المطبخ لإعداد الشاى!
وسألته إذا كان يعد الشاى بنفسه. ورد بالإيجاب وأضاف بأنه ليس فى البيت غيره وغير شقيقته، وهى أكبر منه، وهى ترعاه، لكنه فى الحقيقة يحرص على ألا يرهقها بتوافه "الأمور"، ولهذا فهو حريص على أن يفعل لنفسه كل ما يستطيع أن يفعله بنفسه.
ولم يلتفت إلى دهشتى وإنما ذهب إلى باب تحت السلم دخل منه ثم عاد بعد دقائق يحمل صينية عليها إناء للشاى وفنجانان وطبق صغير عليه قطعتان من البسكويت الجاف. وتقدمت أحاول أن أصب الشاى لكنه سبقنى. ثم جلس على مقعد أمامى وراح يحشو غليونه - لأول مرة أثناء لقائنا - بالتبغ ثم يشعله بينما كنت أدقق النظر فيه أحاول سبر أغوار هذا الرجل "أعظم الأحياء فى زماننا" و"أول الخالدين فى هذا العصر" على حد تعبير الدكتور "محمود عزمى" والدكتور "لويس عوض".
وظللت صامتاً أنتظره هو ليفتح الموضوع من أى نقطة يشاء، ولم يطل انتظارى. قال:
-"أريد أن أعود بك إلى موضوع اليهود وإسرائيل. لكنى أريدك أن تعرف أن اهتمامى "إنسانى". إننى قلت لـ "وايزمان" (يقصد "حاييم وايزمان") حتى من قبل سنة 1948 "إننى أريد أن بيتاً ووطناً لليهود ولكنى لا أتمنى ذلك على حساب شقاء العرب الفلسطينيين". وحين أجابنى "وايزمان" بأن "الله هو الذى وعد اليهود بهذه الأرض" - كان ردى عليه "أننا جميعاً يجب أن نترك "الله" خارج المناقشة، فالكل يرى أن "الله" معه. إذا كان الله قد أعطى لليهود وعداً فى فلسطين فإن "الله" هو الذى أسكن الفلسطينيين فيها ".
ولم أعلق بشىء وواصل حديثه بسؤال:
- "إنك قلت لى إنك تعرف الجنرال "نجيب" فهل تعرفه جيداً؟ الصحف تقول إنك قريب من الجنرال وضباطه.. فهل هذا صحيح؟ وإلى أى حد؟".
ورددت بأن كل ما أستطيع قوله الآن هو ما قلته فى بداية لقائنا وهو "إننى أعرف عدداً من الضباط الذين قاموا بالثورة فى مصر..".
وقال "آينشتين":
- "إننى قرأت فى إحدى الصحف أن الجنرال هو "واجهة" وأما السلطة الحقيقية فإنها فى يد شباب الضباط. فهل هذا صحيح؟".
قلت "إنه ليس هناك سر فى ذلك، فالجنرال فعلاً هو واجهة وقع عليها الاختيار، وأما قائد الثورة الحقيقى فهو كولونيل شاب اسمه "جمال عبد الناصر".
وقال "آينشتين":
- "لم أسمع اسمه من قبل، لم أقرأه، هل تعرفه؟ ".
قلت مكرراً نفس تعبيرى السابق.
"نعم... إلى حد ما".
وعاد يسألنى:
- "ماذا يريد هذا الكولونيل الذى ذكرت اسمه؟".
ورحت أشرح له باختصار أوضاع مصر وقصة الثورة ودور شباب الضباط من الثوار، ثم شخصية "جمال عبد الناصر".
وقال:
- "من كلامك يظـهر أنك تعرفه جيداً، لكنك لم تقل لى ماذا يريد من اليهود ومن إسرائيل؟".
وقلت "إننى لا أظن أن الكولونيل "عبد الناصر" أو الجنرال "نجيب" أو غيرهما من شباب الضباط لديهم مشكلة مع اليهود كيهود، المشكلة مع إسرائيل الدولة وخططها العدوانية ضد الفلسطينيين والتوسعية ضد بقية العرب، هنا المشكلة ".
وقال "آينشتين":
- "مع "ناس" مثل "مناحم بيجن" وما فعله فى دير ياسين معك حق. لكن هؤلاء "الناس" ليسوا اليهود وليسوا فكرة إسرائيل هؤلاء الناس نازيون فى فكرهم وتصرفاتهم أنا أتحدث عن غيرهم.
وقلت ما معناه إن "بن جوريون" ليس أقل نازية من مناحم بيجن".
وقاطعنى "آينشتين" قائلاً:
- " لا.. لا إن بن جوريون يختلف عن بيجن، ثم إن هناك ناساً كثيرين "طيبين" فى إسرائيل".
وقلت ما معناه: إننا لم نستطع حتى الآن أن نعثر على هؤلاء "الطيبين"!
وقال:
- "ربما أنتم لا تستطيعون، ولكن أنا أستطيع إذا كانت هناك فرصة".
ثم دخل مباشرة إلى ما ظهر لى أنه شاغلى الحقيقى.
سألنى: هل تستطيع أن تنقل رسالة إلى الجنرال "نجيب" أو إلى هذا الكولونيل الذى كنت تتحدث عنه؟ ما هو اسمه الذى ذكرته لى"؟
قلت: "جمال عبد الناصر".
قال:
- "نعم.. نعم.. هل تستطيع أن تنقل إلى الاثنين - الجنرال والكولونيل - رسالة منى"؟
قلت ما معناه "إنه يشرفنى شخصياً أن أحمل رسالة من "ألبرت آينششتين" كما أنى أظن أن "الجنرال والكولونيل" كلاهما يسعده أن يتلقى منه رسالة. وإن كان لابد أن أضع أمامه مقدماً أن الأمر يتوقف على طبيعة الرسالة وفحواها".
ولمحت على وجه "البروفيسور" علامات تردد، ثم وجدته ينهض فجأة ويتوجه نحو مكتبه ثم يعود - وفى يده مظروف كبير - إلى مجلسه أمامى بينما كنت أتابع حركاته وخلجات وجهه بإحساس مشحون بالترقب والفضول.
أمسك المظروف الذى أتى به فى يده ثم قال:
-"طبعاً تعرف أن "وايزمان" (حاييم وايزمان) أول رئيس لدولة إسرائيل مات فى أوائل الشهر الماضى".
وهززت رأسى علامة أننى "بالطبع أعرف"، وواصلت النظر إليه وكانت أصابعه قد راحت تفتح المظروف وتخرج ما فيه من أوراق وراح يرتبها فيما بدا لى ثم ناولنى واحدة منها وقال: اقرأ أولاً هذه البرقية.
وناولنى برقية أسرعت أولاً إلى نهايتها استكشف شخصية مرسلها كان التوقيع "أبا إيبان" سفير إسرائيل فى واشنطن.
وبدت الدهشة على ملامحى وقال لى هو بحماسة ساذجة: اقرأ.. اقرأ.
وقرأت وزادت دهشتى.
ثم ناولنى خطاباً كان هو الآخر بتوقيع "أبا إيبان" وصلت به دهشتى إلى قمتها.
ثم كان هناك خطاب ثان بتوقيعه هو ألبرت آينشتين وتنفست الصعداء.
وكان الدور عليه هو الآن لكى يتأمل ملامحى ووقع ما قرأته لتوى على تعبيراتها.
ووضعت الأوراق الثلاثة التى كانت فى يدى البرقية.. برقية أبا إيبان والخطابين خطاب "أبا إيبـان" ورده هو (آينشتين) عليه، ولم أجد على لسانى إلا قولى ما معناه "أن ما قرأته كان جديداً على".
وقال بنفس الحماسة التى بدت لى ساذجة: "لم أتوقعه على الإطلاق أنا أيضاً".
واستطرد وقد زالت عنه فجأة نبرة الحماسة التى بدت لى ساذجة:
- إننى فوجئت عندما وجدتهم يعرضون على رئاسة الدولة فى إسرائيل بعد وايزمان أعرف طـبعاً أنهم يريدون اسمى وليس جسمى، فهم فى مشكلة بعد غياب شخصية معروفة ولامعة مثل وايزمان، لكننى لم أستطع القبول اعتذرت لهم بأسف حقيقى لأننى أعرف نفسى لست مخلوقاً لكى أرأس دولة هذا شىء خارج عن كل ما أعرفه، بعيد عن كل خبرتى. اعتذرت لهم كما ترى لكنى لا أظن أنه بوسعى - وقد طلبوا إلى ما طلبوه - أن أكتفى بالاعتذار لابد أن أفعل ما هو أكثر من ذلك، لو استطعنا أن نفعل شيئاً من أجل سلام إسرائيل وسلام الفلسطينيين أيضاً فإننا نكون قد أدينا مهمة طيبة ومفيدة.."
وكنت أتابعه صامتاً أحسست أن طوارئ الموقف تفرض على نوعاً من التحرز والحيطة، فلم أكن أريد فى مطلق الأحوال أن أجد نفسى فى أرض محرمة أو ملغومة..
وأحس قطعاً بتحفظى وقال:
- كل ما أريده منك أن تنقل رسالة منى إلى الجنرال نجيب وإلى هذا الكولونيل ما اسمه الذى ذكرته لى لم أعد أستطيع بسهولة حفظ الأسماء..
وقلت له باسماً:
عبد الناصر.. جمال عبد الناصر!
وقال: نعم.. نعم.
ثم راح يحاول تحفيظ نفسه بمقاطع الاسم ويكرره أكثر من مرة.
وعاد يسألنى:
هل تستطيع أن تحمل رسالة منى إليهما؟
لدى ثلاثة أسئلة محددة.
هل هما مستعدان للسلام مع إسرائيل؟ وإذا كان الرد بالإيجاب، فما هى الشروط الواجبة أو الممكنة على الطرفين لتحقيق هذا السلام؟ ثم ما هو الأسلوب الذى تقترحانه لبحث القضية مباشرة بينهما أو عن طريق أى جهة دولية فى البداية؟. إننى لا أريد أن أعرض نفسى وسطياً فأنا لا أصلح لذلك. ربما كنت كما يقولون فى الكيمياء أصلح كعامل مساعد لا أريد أن أقوم بدور سياسى، ما أريده هو أن أقوم بالدور الإنسانى، تحقيق الاتصال ثم ترك التفاصيل لمن يعرفون أو من يقدرون أو من هم مهيأون لذلك"!
وأحسست بحيرة حقيقة، من ناحية لم أجد ضرراً محتملاً فى حمل ثلاثة أسئلة من "ألبرت آينشتين" إلى "محمد نجيب" أو "جمال عبد الناصر" ومن ناحية أخرى فإننى كنت أخشى أن أفتح باباً لا أعرف إلى أين يقود.
وأحس البروفيسور بحيرتى وأثبت أن باعه فى السياسة لا يقل رغم تواضعه عن باعه فى العلم وإذا هو يقول:
إذا كنت توافق على حمل هذه الرسالة فأنا لا أمانع فى أن تنقل صوراً من هذه الأوراق لكى يعرفوا فى القاهرة أننى لا أقترح من فراغ.
وسألته:
هل أستطيع فعلاً أن أنقل صوراً من هذه الأوراق؟
وقال دون تردد:
بالطبع لكنى أريد منك وبضمير الإنسان أن لا ينشر شىء منها أو يستغل سياسياً مهما كان ردهم فى القاهرة.
ودعانى إلى الجلوس على مكتبه كى أنقل أوراقه مستريحاً. وجلست وأنا أقول له ضاحكاً ما معناه "إننى أشعر على مقعده ووراء مكتبه أننى عالم كبير يستطيع أن يلم بأسرار الكون".
وقال ببساطة.
لم تخطر لى فكرة ذات قيمة وأنا جالس إلى مكتبى أهم ما خطر على فكرى خطر لى وأنا أمشى بين الشجر!
ولاحظته مستغرباً وهو يحمل إلى فنجان الشاى من حيث كنت أجلس معه إلى حيث جلست الآن على مكتبه، ثم يكتشف أن الشاى فى الفنجان قد برد ويأخذه بنفسه ليفرغ ما فيه فى المطبخ ثم يعود ليملأه من جديد بشاى ساخن ورجوته صادقاً أن لا يزعج نفسه، وقال:
أنت الذى ستقوم الآن بالعمل الشاق، نقل الأوراق عمل ممل، كنا نستطيع تصويرها لكن ذلك يقتضى إرسالها إلى سكرتارية الجامعة، ومعنى ذلك احتمال أن يتسرب مضمونها.
ورحت أنقل الأوراق وهو جالس أمامى يتابع ما أفعل.
البرقية أولاً:
"البروفيسور ألبرت آينشتين
معهد الدراسات المتقدمة - برنستون
إن حـكومة إسرائيل طلبت إلى أن أتعرف على رد فعلكم إزاء مسألة شديدة الأهمية وعاجلة، وسوف أكون ممتناً لكم إذا استطعتم استقبال نائبى الوزير المفوض "دافيد جويثين" فى برنستون فى أى موعد تحددونه غداً الثلاثاء، وبعدها فإننى أرغب فى زيارتكم بنفسى يوم الأربعاء لكى أحصل على ردكم وأكون شاكراً إذا أبرقتم إلى بموافقتكم مع كل الاحترام.
"أبا إيبان".
سفير إسرائيل - واشنطن".
ونحيت البرقية التى فرغت من نقل نصها وقال "آينشتين" موضحاً:
-"إننى قلقت من هذه البرقية واتصلت بـ "أبا إيبان" تليفونياً وأخبرنى بما لديه واعتذرت له فى لحظتها، وأصرّ على طلبه فى البرقية بأن أستقبل نائبه الذى يحمل إلى خطاب حكومة إسرائيل بعرضها الرسمى على قبول رئاسة الدولة.
قابلت الرجل فعلاً وتسلمت خطابه وسلمته فى نفس اللحظة خطابى بالاعتذار.. كلاهما أمامك".
ورحت أنقل الخطاب الأول خطاب "أبا إيبان" متضمناً العرض الرسمى لحكومة إسرائيل:
"سفارة إسرائيل.
واشنطن.
عزيزى البروفيسور آينشتين
إن حامل هذا الخطاب هو المستر "دافيد جويثين" من القدس، وهو الآن يخدم هنا كوزير مفوض لسفارة إسرائيل وسينقل إليكم سؤالاً من رئيس الوزراء "دافيد بن جوريون" عما إذا كنتم على استعداد لقبول رئاسة الدولة فى إسرائيل إذا عرض ترشيحكم على الكنيست ولقى موافقته. إن ذلك يتطلب موافقتكم مقدماً على حمل الجنسية الإسرائيلية.
إن رئيس الوزراء يؤكد أن قبولكم لهذا المنصب الذى يعرض عليكم لن يؤدى إلى تعويق حريتكم فى مواصلة عملكم العلمى العظيم، وبالعكس فإن الحكومة والشعب فى إسرائيل سوف يبذلان كل جهد لتمكينكم من ذلك إدراكاً منهم بالأهمية القصوى لهذا العمل. إن المستر دافيد جويثين سوف يكون تحت تصرفكم فى أية أسئلة تودون توجيهها إليه عن الظروف والترتيبات العملية لما يسألكم فيه رئيس الوزراء.
إننى أفهم دواعى التردد التى أعربتم عنها حين تحدثنا معاً بالتليفون هذا المساء، ولكنى أريد أن أؤكد لكم من ناحية أخرى أنه مهما كان ردكم النهائى على هذا العرض فإن مجرد التفكير فيه يحمل فى طياته أعمق احترام الشعب اليهودى لواحد من أعظم أبنائه. إن إسرائيل دولة صغيرة برقعتها ولكنها ليست صغيرة بما تمثله من معان وتقاليد روحية وفكرية فى زمننا الحديث، إن رئيسنا الأول كما تعرف قد علمنا كما تعلمنا منك أنت أيضاً أن نرى أقدارنا فى مثل هذه المعانى الكبيرة.
ومهما يكن مجرى تفكيرك الآن فإننى آمل أن تكون كريماً فى تقديرك لهؤلاء الذين دعتهم دوافع نبيلة إلى مثل هذا الطلب إليك فى لحظة هامة من تاريخ شعبنا.
مع فائق الاحترام.
أبا إيبان.
وبقيت الورقة الثالثة الخطاب الثانى رد آينشتين ورحت أنقل:
"مركز الدراسات المتقدمة
برنستون
مكتب البروفيسور ألبرت آينشتين
عزيزى السفير:
إننى تأثرت إلى أبعد مدى من عرض حكومة إسرائيل وفى نفس الوقت فإننى حزين إلى درجة الشعور بالعار لأنى لا أستطيع قبوله، إننى تعاملت طول حياتى مع أشياء موضوعية، وإنى لأفتقر إلى أى استعداد طبيعى للتعامل كما ينبغى مع الناس ومع المهام الرسمية ولهذا السبب، فإننى لا أعتقد بصلاحيتى لهذا المنصب الكبير، يضاف إلى ذلك أن عمرى لا يسمح لى ببقية قوة أعطيها لما تعرضونه على.
إننى حزين لأن أتخذ هذا القرار لأن علاقاتى الإنسانية بالشعب اليهودى موصولة، كما أننى أتفهم الظروف الحرجة التى تحيط بدولة إسرائيل فى العالم، خصوصاً وإننا فقدنا الرجل الذى استطاع أن يقود شعبه أمام كل العقبات والمخاطر.
وأخيراً فإننى آمل من أعماق قلبى أن تجدوا خلفاً له يملك الخبرة ويملك المزايا الشخصية التى تمكنه من قبول المسئولية الهائلة للمهمة الملقاة عليه.
مع كل الاحترام.
ألبرت آينشتين.
فرغت من نقل الأوراق الثلاثة ثم نهضت من مقعد البروفيسور الذى قمت باحتلاله عشر دقائق وعدت إلى مقعدى الذى كنت فيه قبل أن يدعونى - أو يغرينى - بنقل برقية وخطابين متبادلين بين"أبا إيبان" وبينه.
وكانت نظراته تتابعنى وأنا أطوى الصفحات التى كتبتها وأضعها فى الجيب الداخلى لبذلتى وراح وكأنه يحاول أن يسألنى من طرف خفى عن رأيى فيما قرأته ونقلته - يقول:
لم يكن أمامى غير الاعتذار كما قرأت فى رسالتى لـ "إيبان" لا أستطيع بالمزاج - أو بالضمير أو حتى بالسن - أن أقبل. لكن أن تعتذر عن وظيفة ليس معناه أن تتنصل من عمل إذا كان ذلك فى مقدورك.
ثم جاء سؤاله المحدد:
هل تعتقد أنه يمكن عمل شىء؟
وقلت:
إننى أريد أن نكون واضحين: عندما جئت إلى هنا لمقابلتك لم يكن يخطر ببالى أننى سأخرج بما أنا خارج به الآن.
ومع ذلك فلقد فهمت أنك تطلب منى حمل رسالة وليس أكثر، لكنك الآن تسألنى هل يمكن عمل شىء فهل تقصد شيئاً بعد الرسالة؟
قال باستقامة:
فيما يتعلق بك كنت أتحدث عن الرسالة. ما بعد ذلك أفق آخر لكنى قصدت بسؤالى عن إمكانية عمل شىء مجرد معرفة رأيك فى "هل السلام مطلوب من جانبكم؟ وهل هو ممكن؟".
وأجبت بما معناه "أن السلام مطلوب باستمرار لكن صميم القضية هو الجزء الثانى من تساؤله وهو ما إذا كان السلام ممكناً، ثم قلت: "إن الرد على هذا التساؤل تقع مسئوليته على إسرائيل وإذا سمحت لنفسى أن أحدثه من واقع تجربتى الشخصية كمراسل حربى عاش سنة 1948 كلها وسط معارك الأرض المقدسة فإن تجربتى تقول أن إسرائيل لا تريد السلام.
ورحت أحدثه عما رأيته بعينى قبل بدء المعارك النظامية فى "حيفا" و"يافا" والجزء الغربى من القدس وماذا فعلته قوات "الهاجاناه" فى المدنيين الفلسطينيين هناك. وحدثته عن خطط الحرب الإسرائيلية كما رأيتها على الأرض. وكيف حاول الجنرال "إيجال آللون" احتلال العريش ليقطع خط الرجعة على المجموعة الرئيسية للجيش المصرى فى "رفح".
وقلت له: "إننى خرجت من تجربة حرب فلسطين باستنتاجين رئيسيين:
أولهما: أن إسرائيل لا تريد السلام وإنما تريد كل أرض عربية تستطيع نيران أسلحتها أن تصل إليها.
والثانى: أن إسرائيل تمارس أقصى قدر من العنف فى حربها لأنها تريد خلق أسطورة فزع فيمن حولها، وبالتالى فان نزعة العنف التى أدانها فى تصرف "مناحم بيجن" فى "دير ياسين" ليست قاصرة عليه وحده وإنما هى سياسة مجتمع وربما بحكم طبيعة ظروف تكوينه".
كان "البروفيسور" يستمع إلى فى صبر، لكن احتماله تخلى عنه فى النهاية فرفع كفيه وحاول أن يسد بهما أذنيه قائلاً:
- "لا أريد أن أسمع أكثر من ذلك.... لا أريد على الإطلاق".
ثم استرد:
- "إن لى أصدقاء هـناك وبعضهم كتب لى وما سمعته منهم يحمل أوجه شبه مع ما سمعته منك. والحقيقة أنه كان بين أسبابى الداخلية فى الاعتذار الفورى عن رئاسة الدولة. بالتأكيد فان منطق الدولة فى حد ذاته يستدعى استعمال العنف وأنا ضده، وأظن أننى كنت سأتحمل على ضميرى عبء ما لم أقرره بمحض اختيارى".
ثم استدرك:
- "لكنى أريد أن يعرف الجنرال "نجيب" وكذلك الكولونيل الذى تقول إنه القائد الحقيقى للضباط الشبان أن لهم مصلحة فى وقف الانزلاق نحو العنف فى إسرائيل - على فرض أن كل ما يقال صحيح.
أنا لا أريد - وغيرى أيضاً - أن تكسب "فكرة إسرائيل" أرضاً ويكون الثمن أن تخسر "فكرة إسرائيل" روحها".
ثم سألنى واللقاء يصل إلى خاتمته:
- "كيف أنتظر أن أسمع منك؟".
وقلت "إننى سوف أجد الوسيلة لذلك، وأغلب الظن أن واحداً من أعضاء البعثة المصرية الدائمة إلى الأمم المتحدة فى نيويورك سوف يتصل بمكتبه "فى برينستون".
وتطلع إلى الساعة القديمة فى جانب القاعة الكبيرة التى كنا نجلس فيها، ثم قال:
- "هناك قطار بعد خمسة وعشرين دقيقة إلى نيويورك. أنا أعرف هذا القطار. آخذه دائماً إذا كان لدى عشاء هناك. نادراً ما أذهب".
ثم راح ينادى شقيقته يطلب منها - بالألمانية - أن تستدعى بالتليفون سيارة تاكسى تقلنى إلى محطة القطار!
وفى نيويورك توجهت على الفور من المحطة إلى فندق "باربيزون بلازا" حيث كان يقيم الدكتور "محمود عزمى" وقتها، وحكيت له كل ما جرى، وكان يسمعنى باهتمام وبين كل مقطع فى روايتى ومقطع كان يردد العبارة الشهيرة التى كانت تجرى على لسانه عندما يهتم بشىء أو يفاجئه شىء: ما شاء الله!!
وكان رأيه فى النهاية "أن موقفى كان معقولاً، وأن اهتمام رجل فى مثل مكانة "آينشتين" بمشكلة السلام فى منطقتنا أمر مرغوب فيه. ثم إن هناك احتمالاً كبيراً أن يكتشف الحقيقة فى شأن إسرائيل بنفسه، وإذا حدث ذلك فى يوم من الأيام فقيمته أكبر من أن تقدر".
وكانت نصيحته "أن أنشر عن مقابلتى لـ "آينشتين" فى أضيق الحدود حتى لا أقطع الطريق على أية إمكانية محتملة فى المستقبل القريب". وسألنى إذا كنت أريد أن أكتب رسالة "للواء محمد نجيب" أو "البكباشى جمال عبد الناصر" بتفاصيل ما حدث يتولى هو إرسالها بالحقيبة ضمن البريد الدبلوماسى. وقلت إننى أفضل أن أطرح الموضوع بنفسى. ثم سألنى عما إذا كنت أوافق على إرسال برقية بالشفرة إلى وزارة الخارجية فى القاهرة تحول لـ "نجيب" أو لـ "عبد الناصر"، ووجدتها فكرة معقولة، واتفقنا على نص رسالة تقول "إننى قابلت "آينشتين" وأنه تحدث إلى فى مشكلة إسرائيل وكانت لديه اقتراحات معينة حملها لى". وكان رأينا معاً أن صدى رسالة فى القاهرة يمكن أن يحدد أمامى ما أفعل. فلو جاء رد باستدعائى للعودة فوراً أو يطلب تفاصيل أكثر تصرفنا على هذا الأساس، وإذا لم يجىء شىء فلا بأس إذن من الانتظار حتى أعود إلى القاهرة.
وانصرفت إلى غير ذلك من أعمالى فى نيويورك ولم تجىء كلمة من القاهرة. ثم قررت السفر إلى كوريا مرة أخرى وراء الجنرال "آيزنهاور" الذى نجح فى انتخابات الرئاسة على أساس التزامه بإنهاء الحرب فى كوريا. ووجدتنى عائداً إلى القاهرة عن طريق الشرق الأقصى. دورة كاملة حول الكرة الأرضية.
وعندما مررت بنيودلهى- عاصمة الهند - فى طريق العودة إلى القاهرة وجدت مع السفير المصرى هناك "إسماعيل كامل" رسالة تنتظرنى من القاهرة تقول "إن البكباشى جمال عبد الناصر يريد تفاصيل عن الرسالة التى ذهبت إليه بالشفرة من نيويورك".
كانت رسالتى من نيويورك - أو رسالة الدكتور "محمود عزمى" - قد أرسلت قبل أكثر من شهر ولم أجد داعياً لكتابة أية تفاصيل، فبعد أيام قليلة أكون فى القاهرة تتاح لى الفرصة كى أروى كل الحكاية بنفسى.
وكان لدى كثير أرويه لـ "جمال عبد الناصر" عن رحلتى الطويلة.
كان تقديرى أن الولايات المتحدة لن تبيع لنا سلاحاً، وكان ذلك تقديره أيضاً دون أن يبرح مكانه فى القاهرة.
وكنت قد سمعت أن الرئيس الأمريكى الجديد الجنرال "آيزنهاور" سوف يعطى أولوية خاصة للصراع العربى الإسرائيلى لأنه يريد أن يدخل التاريخ كصانع سلام فى الأرض المقدسة، فضلاً عن أنه يسعى إلى إعادة ترتيب أوضاع الغرب العسكرية فى المنطقة سواء فى حلف للدفاع عن الشرق الأوسط أو فى إطار حلف عسكرى إسلامى (وكان أحد مساعدى "آيزنهاور" وهو الجنرال "أولمستيد" قد صدع رأسى فى واشنطن بالحديث عن فكرة حلف إسلامى، وحاولت مناقشته فيها وتفنيد رأيه المقتنع بها دون جدوى). وكنت قد عرفت أيضاً بنية "آيزنهاور" إرسال وزير خارجيته الجديد "جون فوستر دالاس" قريباً إلى المنطقة لبحث قضية "الدفاع عنها".
وأخيراً وصلنا إلى مسألة مع "آينشتين" ووجدته يريد تفاصيل اللقاء كله وليس فقط ذلك الجزء الخاص بإسرائيل.
ووضعت أمامه صورة كاملة بكل ما حدث. والغريب أن اهتمامه بالجزء الخاص بأفكار "البروفيسور" كان أكبر من اهتمامه بما يخص إسرائيل.
وفيما يخص إسرائيل كان رأيه أن تظل الصلة معلقة بشكل ما مع "آينشتين" دون أن ندخل فى تفاصيل ما عرض أو نرد على سؤال مما طرح. وكان تقديره أن الموقف فى الصراع العربى الإسرائيلى سوف يتضح أكثر بعد "حملة الربيع الأمريكية" (زيارة "دالاس" المقبلة).
وسألته عن كيفية إبقاء الصلة "معلقة" مع "آينشتين". وكان رده أننى أستطيع بحث "الأسلوب" مع الدكتور "فوزى" (كان الدكتور "محمود فوزى" قد أصبح وزيراً للخارجية بدلاً من السيد "أحمد فراج طايع" الذى تولاها لعدة شهور فى وزارة اللواء "محمد نجيب" الأولى).
وكان اقتراح الدكتور "محمود فوزى" بعد ذلك أن يتولى الدكتور "محمود عزمى" إخطار "البروفيسور آينشتين" بأن "ما عرضه يجرى بحثه بالعناية اللائقة به فى القاهرة".
وانقضى عام وأكثر. ثم جاء "البانديت جواهر لال نهرو" فى زيارة للقاهرة لأول مرة، ودعيت للغداء مع "جمال عبد الناصر" على مائدة "نهرو" فى مأدبة أقامها سفير الهند فى القاهرة أيامها السردار "بانيكار".
وعلى مائدة الغداء فوجئت بأن "جمال عبد الناصر" مال على "نهرو" وهمس فى أذنه بشىء، ثم التفت نحوى يقول:
- "هذا هو الرجل الذى قابل "آينشتين"!"
ودهشت. لكن "جمال عبد الناصر" لم يقل على المائدة أكثر من ذلك. ثم روى لى بعدها أن "نهرو" أطلعه على خطاب من صديقه عالم الرياضيات والفيلسوف الكبير "برتراند راسل" مرفقاً به رسـالة من "آينشتين" يرجوه تسليمها إلى "نهرو" كى يحدث "جمال عبد الناصر" فى موضعها عندما يقابله.
وقال "جمال عبد الناصر" أن "آينشتين" أشار فى رسالته لـ "نهرو" بأنه سبق له مقابلة أحد أصدقاء "عبد الناصر" وأن نتائج المقابلة ظلت معلقة فى الهواء لم تستقر على شىء.
كان "آينشتين" فى رسالته إلى "نهرو" ما زال خائفاً على روح "فكرة إسرائيل" من احتمالات "عسكرة" وطن إسرائيل!
وأتذكر أننى سألت "جمال عبد الناصر" بعدها عما إذا كان مناسباً أن نرد على "آينشتين". وكان رأيه أن "نهرو" سوف يكتب لـ "برتراند راسل".
كان ذلك فى منتصف شهر فبراير 1955. ولم تمض أكثر من عشرة أيام حتى وقعت الغارة الإسرائيلية الشهيرة على "غزة". ولست أعرف كيف كان رد فعل "ألبرت آينشتين" وهو يتلقى تفاصيل ما حدث؟
لقد وقع ما كان يتخوف منه، ولم يعد فى مقدور أحد أن ينقذ "روح إسرائيل" من "وطن إسرائيل".
تورط الدين فى الوطنية الضيقة ولم يعد لهذه الوطنية الضيقة - على غير أساس حقيقى تاريخى (وليس أسطورى) - إلا "فكرة الحرب" بكل ما يترتب عليها من كوارث وأهوال.
وتلك قضية أخرى، لكن الستار نزل على مشهد كان مضيئا بالفكر والعلم من قصة طويلة عنيفة معظم فصولها مكتوبة بالنار والدم!
إلى اللقاء مع الجزء الثانى بإذن الله
--------------------
* : مقال اليوم هو واحد من تلك المجموعة الكبيرة التي كتبها هيكل لسنوات تحت عنوان "بصراحة " ,, نُشِر المقال بتاريخ 7/4/1985
0 comments:
Post a Comment